ما إن قرر زعماء قبليون وسياسيون في شرق ليبيا إعلان محافظة برقة إقليما فيدراليا، إلا وتفجرت عاصفة غضب واحتجاجات في كافة أنحاء البلاد، بل ووصل الأمر إلى اتهام المسئولين عن تلك الخطوة بخيانة ثورة 17 فبراير. وكان قرابة ثلاثة آلاف شخص من أهل برقة عقدوا في 6 مارس مؤتمرا في مدينة بنغازي أعلنوا خلاله برقة إقليما فيدراليا وشكلوا مجلسا لإدارة شئونه والدفاع عن حقوق سكانه برئاسة الشيخ أحمد الزبير السنوسي، ابن عم الملك الليبي الراحل إدريس السنوسي. وبالنظر إلى أن برقة التي تقع في شرق ليبيا هي أول منطقة تعلن تحولها لإقليم فيدرالي يتمتع بحكم ذاتي منذ مقتل العقيد الراحل معمر القذافي في 20 أكتوبر من العام الماضي، فقد حذر كثيرون من أن تلك الخطوة تمهد لتقسيم ليبيا على غرار الوضع الذي كان قائما بعد رحيل الاستعمار البريطاني. فمعروف أن ليبيا بعد استقلالها في 1951 كانت مملكة اتحادية تتألف من ثلاث ولايات هي طرابلس في الغرب وبرقة في الشرق وفزان في الجنوب، وفي عام 1963 جرت تعديلات دستورية ألغي بموجبها النظام الاتحادي، وتم حل الولايات الثلاث وأقيم بدلا منها نظام مركزي يتألف من عشر محافظات. ورغم أن الشرق الليبي طالما اشتكى من التهميش وعدم حصوله على نصيب عادل من ثروة البلاد إبان حكم القذافي، إلا أن كثيرين يرون أن إعلان برقة إقليما فيدراليا في هذا التوقيت الحرج الذي تمر به ثورة 17 فبراير قد يهدد بقوة وحدة ليبيا ويدفع مناطق أخرى لاتخاذ خطوات مماثلة، خاصة في ظل ضعف المجلس الوطني الانتقالي الذي تولى السلطة بعد الإطاحة بالقذافي وعدم تمكنه من بسط سيطرته على كافة أنحاء البلاد. ويبدو أن ردود الأفعال الغاضبة سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي تكشف بوضوح إدراك الليبيين لأبعاد كارثة إعلان برقة إقليما فيدراليا، حيث سارع رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل لوصف هذا التطور بأنه بداية لمؤامرة على ليبيا والليبيين. واعتبر عبد الجليل في مؤتمر صحفي عقده بطرابلس في 6 مارس أن ما حدث في برقة يعتبر خيانة لإرث الثوار الذين ضحوا من أجل ليبيا موحدة، محذرا من أن الإعلان عن مجلس برقة إذا لم يقابل بوعي جماهيري ناضج سيعرض البلاد للخطر. وتابع "بعض الدول العربية تذكي وتغذي الفتنة التي نشأت في الشرق حتى تهنأ في دولها ولا ينتقل إليها طوفان الثورة، وهذا التخوف هو الذي جعل هذه الدول الشقيقة للأسف الشديد ترعى وتمول وتذكي هذه الفتنة التي نشأت في الشرق، إلا أن المجتمع الدولي لن يسمح بأن تصبح ليبيا مقسمة أو غير آمنة أو غير دولة ديمقراطية". وفيما دعا عبد الجليل مواطني بلاده إلى التحلي بالصبر، استطرد قائلا:" إن ليبيا ووحدتها ناضل من أجلها الشرفاء في السابق وانتفض لها الثوار وخلصوها من نظام الطاغية معمر القذافي، الإعلان عن تشكيل مجلس برقة أمر خطير يهدد وحدة ليبيا". وفي السياق ذاته، أكد الناطق الرسمي باسم المجلس الانتقالي محمد الحريزي في مداخلة له عبر قناة ليبيا الحرة أن هذا الإعلان لا يمثل المنطقة الشرقية التي خرج سكانها وأهاليها في مدن بنغازي والبيضاء ودرنة والكفرة وطبرق ضد الفيدرالية والتقسيم. كما أعلن رئيس اللجنة السياسية بالمجلس الانتقالي فتحي باجا أن هذا التطور خطير ودعوة صارخة للانقسام، وهو أمر مرفوض برمته، قائلا :"نحن ضد الانقسامات وضد أي تحرك يضر بوحدة الشعب الليبي". وبالتزامن مع الرفض الرسمي، سارع الشارع الليبي لاستنكار الخطوة السابقة، حيث شهدت مدن طرابلس وبنغازي والبيضاء وشحات ودرنة وطبرق وقفات احتجاجية رافضة لإعلان إقليم برقة الممتد من حدود مصر في الشرق إلى سرت غربا فيدرالية تستمد شرعيتها من الدستور الذي أقر إبان عهد الملك الراحل إدريس السنوسي في عام 1951. وقال المتظاهرون إن ليبيا التي تخلصت من نظام القذافي "لا شرقية ولا غربية"، مؤكدين في هتافاتهم أن الدماء التي أريقت لم تكن من أجل الفيدرالية. بل وشهدت مدينة بنغازي مناوشات بين سكانها الرافضين للفيدرالية وآخرين مؤيدين لها، وحمل الرافضون للفيدرالية الذين تجولوا في عدد من الشوارع الرئيسية في المدينة أعلام الاستقلال وهم يرددون الهتافات التي تؤكد على وحدة ليبيا كاملة، معتبرين إعلان برقة إقليماً فيدرالياً خطوة نحو تقسيم البلاد. وذكرت وكالة "يونايتد برس إنترناشونال" أن مؤيدي الفيدرالية اضطروا للتراجع والتفرق أمام تزايد أعداد المتظاهرين الرافضين الذين قدر عددهم بأكثر من 5 آلاف شخص، وخصوصاً بعد أن تصاعدت حدة المناقشات بين الطرفين وتبادل الشتائم بينهما. وأكد المتظاهرون الغاضبون من إعلان الفيدرالية الذين توجهوا إلى ساحة التحرير في بنغازي أن كافة المدن الشرقية لن تكون في صف النظام الفيدرالي وستكون مع وحدة ليبيا كدولة ديمقراطية واحدة، مطالبين في الوقت ذاته المجلس الوطني الانتقالي والحكومة الانتقالية بعدم تهميش الشرق الليبي والاهتمام به وعدم اتباع نظام الحكم المركزي. وبجانب الاحتجاجات السابقة، رفض بيان للقوى الوطنية موقع من 40 تجمعا سياسيا وحقوقيا ومؤسسة مدنية في ليبيا، أبرزهم تجمع "ليبيا الديمقراطية" وجماعة الإخوان المسلمين والتجمع الوطني الديمقراطي وحزب الوطنيين الأحرار واتحاد "ثوار ليبيا" واتحاد ثوار17 فبراير وتجمع ليبيا الشباب الديمقراطي، أي دعوات تنادي بالعودة إلى النظام الاتحادي الذي كان يقوم على تقسيم ليبيا إلى ثلاث ولايات، لكل منها حكومة ومجلس تشريعي. ويبدو أن الأسوأ مازال بانتظار ليبيا في حال لم يتراجع زعماء برقة عن الدعوة للفيدرالية، حيث قالت صحيفة "القدس العربي" اللندنية في تقرير لها :" الأمر المؤكد أن أبناء القذافي وأنصاره يشعرون حاليا بأقصى درجات الشماتة وهم يرون الأوضاع في ليبيا تتدهور من سيىء إلى أسوأ يوما بعد يوم في ظل تباطؤ شديد في الإصلاح وانتشار السلاح وغياب كامل للدولة وأجهزتها التنفيذية". وتابعت الصحيفة" إقليم برقة الذي يمكن أن يتطور لاحقا إلى السعي لإقامة دولة مستقلة على غرار ما حدث ويحدث في إقليم كردستان العراق، هو الأغنى في البلاد حيث توجد معظم الاحتياطات النفطية وهذا يعني أن الإقليمين الآخرين، أي طرابلس في الغرب وفزان في الجنوب قد يحرمان من هذه الثروة التي تدر على البلاد أكثر من ستين مليار دولار سنويا". واستطردت" ليبيا بعد انتهاء الاحتلال الايطالي وهزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية جرى تقسيمها إلى ثلاث ولايات: برقة وطرابلس وفزان، الأولى تحت الإدارة البريطانية، والثانية تحت الإدارة الأمريكية (قاعدة هويلس) والثالثة تحت الإدارة الفرنسية، وعندما حصلت على استقلالها عام 1951 بقيادة الملك الراحل إدريس السنوسي أعيد توحيدها تحت سلطة مركزية، بحيث يتم توزيع الثروة النفطية على الجميع على قدم المساواة، التوجه الحالي لإعادة هذا التقسيم الذي تقوده بعض القبائل والشخصيات من أبناء برقة يعيد البلاد سبعين عاما إلى الوراء، ويفجر حساسيات إقليمية وعنصرية وقبلية في مثل هذا الوقت الحساس من تاريخ البلاد". واختتمت الصحيفة، قائلة:"نخشى أن يندم الليبيون على زمن الديكتاتور الفاسد وإطاحته، فمن المؤلم أن يكون هذا الطاغية قد حافظ على وحدة البلاد لأكثر من أربعين عاما ليأتي من ثاروا ضده لكي يقسموها، ويثبتوا أن كل ادعاءاته ومخاوفه من التقسيم والتفتيت كانت صحيحة". والخلاصة أن الثورة الليبية باتت تواجه خطرا داهما ألا وهو احتمال تقسيم البلاد في حال أصرت "برقة" على الفيدرالية.