عندما تنفجر مشاعر الغضب، يتواري العقل، وتتحدث الأعصاب. وإذا جاز في شأن شخصي أن يغلب الانفعال علي الهدوء، تحت ضغط لحظة، وأن يعلو الصخب علي المنطق تحت وطأة موقف. فلا يصح في شأن عام لا سيما لو ارتبط بمصلحة وطنية أو بمستقبل شعب، أن نخطو دون تفكير أو أن نسير علي غير هدي. الشارع المصري ثائر، غاضب علي أداء المجلس الأعلي للقوات المسلحة، تحديداً في النصف الثاني من عام مضي علي بدء الفترة الانتقالية التي تولي فيها إدارة شئون البلاد. الأسباب كثيرة لكن أهمها في تقديري هو تعامل المجلس مع أحداث ماسبيرو، ثم أحداث شارع مجلس الوزراء، وما أحاط بها من إراقة دماء لطخت الصورة الناصعة لعلاقة الجيش بالشعب، وأعمال قمع وانتهاكات أساءت إلي سمعة العسكرية المصرية، حتي لو قيل إن الجيش بريء من هذه الدماء، وأن الانتهاكات كانت فردية ولم تكن تعبيراً عن نهج أو سمح بها قرار. المتظاهرون في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر، يرفعون شعاراً غالباً، ويرددون هتافاً سائداً، هو »يسقط حكم العسكر«، ويطالبون المجلس العسكري بترك السلطة فوراً ودون انتظار انتهاء الفترة الانتقالية في موعدها المحدد بالثلاثين من شهر يونيو المقبل. لن أناقش دفوع المجلس العسكري إزاء الانتقادات الجماهيرية الواسعة، ولا مبررات القوي الثورية والحركات الشبابية المطالبة بتسليم السلطة الآن.. الآن وليس غداً. فلقد فات أوان مناقشات من هذا النوع. لكن السؤال: ماذا لو رضخ المجلس لضغط المتظاهرين، وقرر تسليم السلطة الآن؟! الإجابة المباشرة أن المجلس العسكري سيسلم في هذه الحالة السلطة التنفيذية إلي رئيس مجلس الشعب لحين انتخاب الرئيس الجديد، وهذا الإجراء في تقديري محفوف بالمخاطر، لأنه يعهد إلي رئيس السلطة التشريعية بمهام الرئاسة المؤقتة، ويعطي لتيار الأكثرية في البرلمان مسئوليات التشريع والحكم ووضع الدستور الجديد وإدارة عملية انتخاب رئيس الجمهورية، ناهيك عن تشكيل حكومة تعبر عن هذا التيار. وهو أمر يرهن مصير البلاد لتقديرات وحسابات جماعة واحدة في فترة مفصلية شديدة الخطورة، ولست أظن أن الإخوان المسلمين قد يرحبون بحمل كل هذه المسئوليات الهائلة، مهما راودت بعضهم نوازع الاستحواذ ورغبات الانفراد بالحكم. هناك سؤال آخر: ماذا لو لجأ المجلس العسكري الي الطرح الذي عرضه المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس في خطابه قبل الأخير، عندما أشار الي إمكان اللجوء الي الشعب واستفتائه علي مسألة بقاء المجلس في ادارة السلطة التنفيذية لحين انتهاء الفترة الانتقالية؟!. وفي رأيي أن هذا الإجراء لا يقل خطورة عن نقل صلاحيات رئيس الجمهورية من المجلس العسكري الي رئيس مجلس الشعب. فحين يلجأ المجلس العسكري الي استفتاء نتيجته إما »نعم« أو »لا«، فهو يراهن بمكانة الجيش والمؤسسة العسكرية بأكملها، ويضعها علي محك الرفض أو القبول، ولا يمكن مهما كانت الذرائع إذا رفض الناخبون استمرار بقاء المجلس العسكري، الفصل بين رأي الشعب في أداء سياسي للمجلس، وبين رأيه في المؤسسة العسكرية الوطنية. وحتي لو كانت نتيجة الاستفتاء هي »نعم«، فإن نسبة الأقلية الرافضة، سوف تعبر عن رأي وموقف ليس من المجلس العسكري وأدائه، وإنما من مؤسسة ينبغي أن تظل دوما محل إجماع. لكن هل معني هذا أن نتغاضي عن إرادة عبر عنها الشارع المصري، أو نقلل من شأن رغباته، مثلما درج النظام السابق علي التعامل معه؟!. بالقطع لا. فإرادة الشعب ينبغي احترامها ووضعها فوق كل اعتبار. غير أن مسئولية النخب السياسية والفكرية أن تجتهد في البحث عن طرائق لنفاذ هذه الإرادة، بما يحول دون القفز إلي الفراغ، أو الانزلاق إلي مخاطر لم نتحسب لها. واعتقادي أن أسلم الطرق التي ينبغي أن نسلكها، هو اتفاق المجلس العسكري مع لجنة الانتخابات الرئاسية علي التبكير بموعد انتخابات الرئاسة، ليتم فتح باب الترشيح مثلا في نهاية فبراير، فور اعلان نتيجة انتخابات مجلس الشوري، علي أن تجري الانتخابات في نهاية أبريل، وأن تتم جولتها الثانية إذا اقتضي الامر بعد أسبوع ليتسلم الرئيس الجديد المسئولية في الأسبوع الثاني من مايو، وبذلك تنتهي الفترة الانتقالية قبل 54 يوما من موعدها المحدد، وفي غضون ذلك تكون الجمعية التأسيسية قد انتهت من وضع الدستور، فإذا لم تكن أكملت عملها، فلاضير أن تواصله وتنتهي منه في ظل وجود الرئيس الجديد. لكن يظل علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة دور لا غني عنه ومسئولية كبري لابد أن ينهض بها، خلال ما تبقي من الفترة الانتقالية، هو ترميم الجسور بين الجيش والشعب التي ما كان لها أن تتداعي، وهناك إجراءات بسيطة علي هذا الطريق يمكن أن تزيل الاحتقان وتعيد الثقة، ليعود الجيش ومجلسه الأعلي إلي مهامهم الأصلية، محاطين بالإعزاز والتكريم، وأهمها في رأيي الإعلان عن العقوبات التي أصدرها القضاء العسكري علي العسكريين الذين أدينوا في وقائع ماسبيرو وشارع مجلس الوزراء، ونقل الرئيس السابق إلي مستشفي سجن طرة، ومعاملة نجليه وأعوانه نفس معاملة المتهمين في أي قضايا، أيضا عدم انتظار مرور 52 عاما(!) للكشف عن أسرار دور القوات المسلحة والمجلس الأعلي في ثورة يناير، والإعلان، في الذكري الأولي للإطاحة بمبارك عن هذا الدور الذي بدأ في أبريل عام 0102. علي أن مجلس الشعب معني مباشرة عند استئناف جلساته هذا الأسبوع بإصدار تشريع ينشيء محكمة خاصة (محكمة الثورة) لإجراء محاكمة سياسية لمبارك وأركان حكمه، فليس معقولا مثلا أن يحاكم مبارك لحصوله علي ڤيللا بأقل من ثمنها، ولا يحاكم علي تزييف ارادة الشعب وإفساد الحياة السياسية وإهدار موارد البلاد. الواضح أن چينات الثورة التي كانت »متنحية« في خلايا الشعب المصري، قد نشطت وجرت في دمائه، إلي حد يصعب معه التنبؤ بأفعاله وردود أفعاله! نقلا عن صحيفة الاخبار