يبدو المشهد السياسي هذه الايام، أقرب ما يكون إلي حلبة تتوسطها طاولة لمصارعة الذراعين، تتباري عليها القوي اليسارية والليبرالية مع القوي الإسلامية، وفي أجناب الحلبة يقف الناس يتابعون بقلق، لا يهمهم من يكسب، لانهم خاسرون حتما، أيا كان الرابح! فإذا تغلب أحد الفريقين، وأرهق ذراع الآخر وأجبرها علي الإنثناء لإرادته، فإن طرقة اليدين المتشابكتين فوق الطاولة، في هذا الاتجاه أو ذاك، سوف تطأ مصلحة حيوية لعموم المواطنين وتدهسها. لست أتحدث عن الانتخابات البرلمانية لأن الصراع علي مقاعد البرلمان مهما كانت أجواؤه، وعواصفه، وأضواؤه، وظلاله، محسوم في النهاية برغبة الناس، أي باختياراتها وتفضيلاتها، لا بإرادة المتنافسين. حديثي عن الجدل الصاخب حول وثيقة المباديء الاساسية للدستور الجديد، وأسس أو معايير اختيار اعضاء اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور. الحق انه ليس جدلا بين أفكار انما هو مصارعة بين ارادتين. كل منهما يريد أن يثبت شيئا لنفسه وللآخرين، بقوة الفرض، لا بمنطق الإقناع! والغريب أن الفريقين يملآن الساحة الإعلامية ضجيجا بمطالبات تدعو إلي اختصار المرحلة الانتقالية إلي أقصر زمن ممكن، بينما هما بهذا الصراع يطيلان من عمرها ويمدان فيه بغير ضرورة ولا مصلحة إلي أمد يدخلنا في طريق مجهول، لمجرد الرغبة في كسر إرادة الفريق الآخر. قلنا مرارا إن الدساتير لا تتأسس بإرادة غالبية قوي سياسية، وانما بتوافق مجتمع. وقلنا إن واضعيها في اي دولة، لا يمثلون تيارا فكريا واحدا أو تحالفا سياسيا مهيمنا، وإنما يعبرون عن كل فئات وطوائف الشعب بجانب ممثلي تياراته السياسية حسب أوزانهم في البرلمان. لكن الحاصل ان نزعة المغالبة تسود علي روح التوافق، وشهوة الاستحواذ تطغي علي المصلحة الجماعية! حينما نادت القوي اليسارية والليبرالية بوضع الدستور أولا قبل الانتخابات البرلمانية، اتهمتها القوي الإسلامية بأنها تريد الالتفاف علي ارادة الشعب الذي وافق بأغلبية كبيرة علي تعديلات دستورية تقضي بإجراء الانتخابات ثم وضع الدستور. ووقف الرأي العام مساندا لمنطق التيارات الإسلامية وشرعنا فعلا في اجراء الانتخابات اولا. وحينما تلاقت إرادة القوي السياسية علي وضع المباديء الاساسية للدستور، لتكون تحت تصرف اعضاء الجمعية التأسيسية عند تشكيلها رحب الرأي العام بهذه الخطوة لأنها تبدد أجواء الصراع وتفتح الأبواب أمام التوافق المنشود، وتزيل العراقيل المنتظرة والخلافات المحتملة عند اعداد الدستور، ولأنها ايضا تختصر الفترة الانتقالية بما يؤدي إلي اجراء انتخابات الرئاسة في الخريف القادم، بدلا من الشروع فيها في عام 3102 حسبما تقضي التوقيتات التي تضمنها الإعلان الدستوري الذي صدر في نهاية مارس الماضي. وبالفعل.. أثمر اتفاق القوي السياسية الإسلامية واليسارية والليبرالية عن وضع مسودات لوثيقة المباديء الدستورية، منها مسودة التحالف الديمقراطي الذي يضم عددا كبيرا من الأحزاب في مقدمتها حزب » الحرية والعدالة« وحزب »الوفد«، وأصدر الأزهر وثيقة قوبلت بتأييد اجماعي وتوجت تلك الجهود باجتماع عقده الفريق سامي عنان نائب رئيس المجلس العسكري أول أكتوبر الماضي مع عدد من رؤساء الأحزاب تمثل جميع التيارات، وتم الاتفاق علي وضع وثيقة للمباديء الدستورية وضوابط اختيار اعضاء الجمعية التأسيسية، يلتزم بها رؤساء الأحزاب وممثلو القوي السياسية اثناء اختيار اعضاء الجمعية التأسيسية واعداد مشروع الدستور الجديد. وكان من بين الموقعين علي محضر الاجتماع من القوي الإسلامية رئيسا حزبي »الحرية والعدالة« الإخواني و»النور« السلفي. لكن الدنيا قامت ولم تقعد.. حين أعلن الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء عن المسودة الأولي لمشروع وثيقة المباديء الدستورية ومعايير اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية. في البداية اعترضت التيارات الإسلامية »الإخوان والسلفيين والجماعة الاسلامية« ومعها بعض القوي الليبرالية علي الوثيقة، وانصبت الاعتراضات علي المادتين التاسعة والعاشرة منها، بدعوي أنها تعطي للمؤسسة العسكرية دوراً جديداً اضافياً هو حماية الشرعية الدستورية، وأنها تجعل المجلس العسكري دون غيره مسئولا عن مناقشة ميزانية القوات المسلحة ومختصا دون غيره بالموافقة علي أي تشريع يتعلق بها. واستجابة لهذه الاعتراضات، جرت تعديلات علي المادتين التاسعة والعاشرة فحذفت عبارة »حماية الشرعية الدستورية« من النص الخاص بمهام القوات المسلحة. واعطيت لمجلس الدفاع الوطني الذي يترأسه رئيس الجمهورية مسئولية اعتماد الميزانية التفصيلية للقوات المسلحة، كما اكتفي في مسألة التشريعات الخاصة بالقوات المسلحة تعرضها علي المجلس الأعلي قبل احالتها للبرلمان. رغم كل هذا.. تصاعدت اعتراضات القوي الإسلامية علي الوثيقة، وأصرت علي رفضها، وهددت بتنظيم مليونية يوم 81 نوفمبر الحالي، لو لم يتم الرجوع عنها كلية! ولقد طالعت الوثيقة عدة مرات بعد تعديلها، وأجدها لا تختلف في شيء عما انتهت إليه وثيقة التحالف الديمقراطي التي أكدت علي مدنية الدولة، أو ما نصت عليه وثيقة الأزهر التي أعلنت أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، ودعت إلي أن تكون مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وبما يضمن لاتباع الديانات السماوية الأخري الاحتكام إلي شرائعهم الدينية في أحوالهم الشخصية. وهذا بالضبط هو ما تضمنته الوثيقة التي أعلنها الدكتور السلمي، ونصت عليه المادتان الأولي والثانية من المباديء الأساسية. أما باقي المواد الإثنتين والعشرين التي تضمنتها الوثيقة تتعلق بالنظام السياسي وسيادة القانون والاقتصاد القومي والحقوق والحريات العامة، فهي مباديء لا يمكن أن تكون محل خلاف. أيضا طالعت ملحق الوثيقة الخاص بمعايير تشكيل الجمعية التأسيسية، التي تضمنت اختيار 08 عضوا من الهيئات القضائية واساتذة الجامعات والنقابات المهنية والعمالية واتحادات الفلاحين والجمعيات الأهلية وجمعيات حقوق الانسان والجمعيات النسائية والأزهر والكنائس المصرية وممثل واحد لاتحادات الكتاب والغرف التجارية والصناعية والسياحية والرياضية والطلابية وجمعية رجال الأعمال والمجلس القومي لحقوق الإنسان والقوات المسلحة والشرطة علي أن تقوم تلك الجهات بترشيح ضعف العدد، ويختار الأعضاء المنتخبون بمجلسي الشعب والشوري من بينهم 08 عضوا. أما باقي الأعضاء وعددهم عشرون عضوا فيتم اختيارهم من بين ممثلي الأحزاب والمستقلين حسب نسبة تمثيلهم في البرلمان. وهذه المعايير تبدو موضوعية تماما، وتضمن مشاركة جميع فئات الشعب في وضع الدستور، ولا تتناقض مع التعديلات الدستورية أو الإعلان الدستوري، لأنها تجعل الاختيار في النهاية لأعضاء البرلمان المنتخبين. الواضح إذن أن القوي الإسلامية لا تريد وثيقة مباديء دستورية من الأساس تؤكد علي مدنية الدولة وتعطي الحق لغير المسلمين في الاحتكام إلي شرائعهم، والواضح أن إصرار القوي الإسلامية علي رفض وضع معايير لاختيار اعضاء الجمعية التأسيسية، يعود إلي ظنها بأنها ستحصل علي أغلبية في مجلسي الشعب والشوري، تمكنها من الاستئثار بمقاعد الجمعية التأسيسية وإقصاء الآخرين، والانفراد بتفصيل دستور علي هواها! أما الأصوات المحدودة الليبرالية التي انضمت إلي القوي الإسلامية في رفضها للوثيقة بدعوي أن تعديل المادتين التاسعة والعاشرة غير كاف. فإنني أسألها: لماذا الإصرار علي مناقشة الميزانية التفصيلية للقوات المسلحة داخل مجلسي الشعب والشوري؟.. أليس كافيا أن تتم مناقشة التفاصيل داخل مجلس الدفاع الوطني الذي يضم رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب ورئيسي مجلسي الشعب والشوري وربما يضم رئيسي لجنتي الدفاع والأمن القومي بالبرلمان ؟! ثم هل من المصلحة العليا للبلاد، كشف أسرار الدفاع علي المشاع؟!.. ما الذي سيستفيده أعضاء البرلمان من معرفة أنه سيتم مثلا تطوير قواعد جوية في المناطق الفلانية بتكلفة كذا مليون جنيه، أو تحديث قطع بحرية أو شراء صفقة أسلحة أو انشاء تجهيزات هندسية في مواقع عسكرية أو بناء دشم طائرات؟! أين هي المصلحة في إخراج احشاء أمننا القومي في العراء؟! المدهش حقا أن هناك إشارات مهمة غفلت القوي السياسية جميعها عن قراءتها فيما يتعلق بالوثيقة وملحقها، أو لعلها تجاهلتها بتأثير نزعات الاستحواذ أو المكايدة! فالوثيقة احتفظت لرئيس الجمهورية بمنصب القائد الأعلي للقوات المسلحة، وهو أبلغ رد علي مخاوف أولئك الذين كانوا يتمسكون بتصور مفاده أن الجيش لن يقبل أن يكون قائده الأعلي مدنيا حتي ولو كان رئيسا منتخبا. والوثيقة حتي في صيغتها الأولي قبل تعديل المادة التاسعة، كانت تقصر دور القوات المسلحة- في غير مهام الدفاع عن البلاد وأمنها- علي حماية الشرعية الدستورية بوصفها- أي القوات المسلحة- ملكا للشعب الذي هو مصدر كل السلطات، وهو ما يفند مزاعم أولئك الذين روجوا لأن الجيش لن يعود إلي ثكناته أو أنه سيمارس نفس دور المؤسسة العسكرية التركية المتداخل والمتدخل في الحياة السياسية. ومن حيث المبدأ.. فإن وضع مباديء الدستورية وإعداد معايير اختيار الجمعية التأسيسية، يرد علي الأقاويل التي تروج بأن المجلس العسكري يريد البقاء في السلطة لمدة عامين قادمين علي الأقل وإطالة أمد الفترة الانتقالية. ذلك أن تحديد أسس اختيار الجمعية التأسيسية، سوف يختصر المدي الزمني الذي نص عليه الإعلان الدستوري للانتهاء من تشكيل الجمعية، من ستة أشهر إلي شهر واحد، كما أن وضع المباديء الدستورية التي تعد قلب وجوهر الدستور، من شأنه أن يختصر المدة المحددة للانتهاء من صياغة مشروع الدستور، لتصبح شهرين أو ثلاثة أشهر بدلا من المدة التي نص عليها الإعلان الدستوري وهي ستة أشهر. في هذه الحالة فإن الاجتماع المشترك للأعضاء المنتخبين بمجلسي الشعب والشوري سوف ينعقد في أواخر مارس أو الأسبوع الأول من أبريل لمناقشة اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية، ومن ثم- في حالة وجود معايير محددة للاختيار- سوف ينتهي تشكيل الجمعية في أوائل مايو. وإذا ما كانت المباديء الأساسية للدستور جاهزة أمام الجمعية، فالمنتظر أن تنتهي من مهمتها في يوليو أو مطلع أغسطس القادمين، وبهذا يمكن فتح باب الترشيح لانتخابات الرئاسة قبل نهاية أغسطس، وبالتحديد في اليوم التالي لإعلان نتيجة الاستفتاء علي الدستور، أي أن انتخابات الرئاسة سوف تجري في غضون شهر أكتوبر المقبل. لعل إجازة عيد الأضحي المبارك، والأجواء الروحانية التي تحيط بها، فرصة للقوي السياسية للتفكير الهاديء ومراجعة النفس وتغليب المصلحة العامة للبلاد والسعي نحو التوافق لعبور المرحلة الانتقالية بسلام. فالحوار الموضوعي بين كل القوي لا رغبات المغالبة أو مليونيات استعراض القوة هو الذي يقود الوطن والشعب إلي بر الأمان. ولعلنا في عيد الأضحي العام القادم، نكون قد احتفلنا باجتياز المرحلة الانتقالية بعد انتخاب البرلمان بديمقراطية، ووضع الدستور بتوافق، وانتخاب الرئيس بإرادة حرة، ولعل الجدل الصاخب والصراع المحتدم بين القوي السياسية يكون قد انصب علي سبل إصلاح أحوال الطبقات الفقيرة والمعدمة التي قامت الثورة من أجلها. نقلا عن صحيفة الاخبار