من أكثر الظواهر السياسية التي قد تحدث في أي مجتمع وأوسعها تأثيراً، قيام ثورة: تغير النظام القديم بمؤسساته وشخصياته ورموزه. وما يجري في العديد من الدول والمجتمعات العربية منذ مطلع العام من تغيير شامل هو حراك غير مسبوق أطاح بشخصيات ورموز الأنظمة السابقة مثل بعض الرؤساء، فيما يقاوم حتى الآن رؤساء وشخصيات أخرى للإبقاء ولو على بقايا النظام وتأييده في صفوف الشعب. وبسبب غياب مصطلح جامع للحراك والتغيرات العربية المتسارعة، أطلقنا على ما يجري في الجمهوريات العربية الخمس -تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا- اسم "ثورات". مع أن الحراك العربي لا يرقى علميّاً إلى ثورة. لأن التعريف العلمي للثورة كما تشرحه موسوعة ويكبيديا هو: "قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة". ثم إن التعريف المعاصر للثورة مؤداه أنها التغيير الذي يحدثه الشعب بقيادة مؤسساته القوية مثل "المؤسسة العسكرية" أو "من خلال شخصيات تاريخية لتحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات، ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية. أما المفهوم الدارج أو الشعبي للثورة فهو الانتفاض ضد الحكم الظالم". ولا شك أن مخاض التغييرات التاريخية العربية فاجأ الجميع وحفز العرب ودفع الغرب للحديث عما بات يسمى "الربيع العربي"، ونفى في العقل الغربي بعض الصور النمطية كالقول إنه ليس في جينات العرب القدرة على التغيير والحراك. والحال أن التغييرات العربية الأخيرة دفعت الغرب إلى تغيير مثل تلك النظرة السلبية المقولبة والراسخة عن العرب، ودفعه أخيراً للاعتراف بقدرة العرب على التغيير، وحتى ربما دعم رياح هذا التغيير دون خشية من الفوضى أو الإسلاميين، كما علق وزير الخارجية الفرنسي مؤخراً. والراهن أن جميع الثورات العربية تؤكد على سلمية التغيير، وأنها من صنع محلي وليست مؤدلجة أو صنيعة الخارج. بل فجرتها عقود الفقر والتهميش والحرمان وامتهان الكرامة والقمع والفساد والحكم المطلق للرئيس الضرورة، والرئيس القائد، وقد اصطدم ذلك أخيراً بأرض واقع فقدان الأمل وانسداد الأفق وخاصة مع انتعاش الحلم بغد أفضل وخاصة لجيل الأبناء. ومع هذا يلزم الاعتراف أيضاً بأن الثورات العربية المتواصلة منذ مطلع هذا العام لم يتم حسم أي منها، ولم تصل بعد أي منها لمحطاتها الأخيرة. وكذلك لم تجرف أي منها الأنظمة السابقة كليّاً. ولذلك يُخشى على الثورات العربية من تحديات تعثرها أو اختطافها أو انتكاساتها أو حتى من ثورات مضادة من رموز الأنظمة السابقة. ويتبلور اليوم نموذجان للتحولات العربية من تغيير بعنف منخفض نُسمّيه سلميّاً ومقبولاً في حجمه وتكلفته بسبب نتائجه المهمة في التغيير كحالة تونس ومصر. ونموذج آخر دموي هو أقرب إلى حرب مفتوحة أو حرب أهلية وانقسام كبير في المؤسسة العسكرية (ليبيا)، أو بالاستخدام المفرط للقوة في وجه المتظاهرين الذين يصرون على سلمية مطالبهم أو ثورتهم (سوريا واليمن). ولعل مما يستدعي التذكير في هذا المقام طرح هنتينغتون الذي أكد فيه أن رياح الموجة الديمقراطية الثالثة التي اجتاحت دول العالم من أوروبا إلى أميركا اللاتينية إلى أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي لم تصل ولو حتى بنسائم إلى الدول العربية، ولم تحرك الأوضاع التي بقيت على جمودها، حتى تناولت أدبيات الديمقراطية في الغرب مناعة العرب ضد التأثر بالمد الديمقراطي. إلا أن هذه التغييرات العربية غير المسبوقة من شأنها أن تغيّر وجه وتضاريس المنطقة، ويمكن إذا كتب لهذا المد العربي النجاح أن يغير النظام العربي بشكل جذري، وللمرة الأولى منذ عقود طويلة. والملفت أن الحراك العربي يتزامن مع جمود وتراجع المد الديمقراطي على المستوى الدولي منذ عام 2005. حيث شهد تراجعات وانتكاسات للديمقراطية في أكثر من كيان وإقليم في أفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في أوروبا. فوضعُنا كعرب غريب إذ في الوقت الذي عصفت فيه رياح الديمقراطية خلال سبعينيات القرن الماضي في أكثر من ركن حول العالم بقينا نحن على جمودنا، والآن في الوقت الذي يتراجع فيه المد الديمقراطي وتنكمش الحريات عالميّاً يتقدم مد التغيير والثورات والديمقراطية عربيّاً. ولعل من المؤلم أن الربيع العربي الذي أسقط نظامين عربيين بشكل سلمي بدأ يتحول إلى صيف وربما خريف وشتاء مضرج بدماء الأبرياء وبدأ مشهد الثورات، والتغييرات العربية يتحول إلى اللون الأحمر وسط خوف من حالات تشظٍّ وحروب أهلية وتقسيم. وهذا يعيد، مرة أخرى، الصورة النمطية عن العرب بشأن مقاومة ورفض التغيير، وهو وحده كفيل بأن ينهي السمعة الجيدة للعرب التي كانت بعمر الربيع القصير. وهكذا نعود لحالة الاستثناء العربي لأن العرب غير قادرين على التغيير بشكل سلمي، مما يعطي المشككين فرصة إعادة النظر في مؤشرات التفاؤل والتغيير السلمي اللذين قدمتهما مصر وتونس. واليوم تطغى أخبار ليبيا وتدويل شأنها، وسوريا واليمن، على النجاح النسبي لثورتي مصر وتونس. ويطغى نموذج مقاومة ورفض التغيير الذي تحول إلى صراع دموي مقلق يصبغ مشهد التحولات بالدم العربي المسفوك. ولأن الثورات بخواتيمها ونهاياتها، ومع تحول شتاء ثورات الغضب والإحباط العربي السلمي إلى دموي، يتراجع الآن التفاؤل بشأن إمكانية التغيير بشكل سلمي وبثمن معقول. وكما أسلفنا الإشارة يقف النظام العربي دولاً ومجتمعات على مفترق طرق في صراع بين نموذجين للتغيير: نموذج التغيير السلمي في حالتي مصر وتونس، ونموذج التغيير الدموي المقاوم للتغيير الذي يلجأ للقوة والعنف والقمع وصولاً إلى استهداف الشعوب واستدراج التدخل الخارجي تحت مبرر حماية المدنيين. وسؤال اللحظة الذي من حق الجميع أن يسأله هو: ماذا حدث للثورات العربية، وما هو مصيرها، في النهاية؟ وهو حقاً سؤال مرير في ظل تطور الأوضاع في اليمن بعد رفض المبادرة الخليجية ومحاولة اغتيال صالح ودخول البلاد حرباً أهلية وحرب قبائل. واستمرار النزيف الدموي في سوريا. وانسداد الأفق في حرب مفتوحة في ليبيا، وفشل جميع المبادرات وآخرها المبادرة الإفريقية، ودخول طائرات ال"أباتشي" المعركة، وعجز كتائب القذافي والثوار عن حسم المعارك النازفة. نحن إذن على مفترق طرق، ونجاح العرب في التغيير السلمي سيرسخ صورة أكثر إيجابية عنهم، ويعزز قدرتهم على التغيير حتى في عصر تراجع المد الديمقراطي عالميّاً، وهذا في حد ذاته إنجاز لم يتوقعه حتى أكثر المتفائلين.. مما يؤكد تميز واختلاف العرب عن المجتمعات الأخرى وقد يكرس أيضاً نجاح التحولات العربية. نقلا من جريدة الاتحاد