تمضي مرحلة إعادة ترتيب الأوراق في السياسة الإقليمية لمصر بنجاح من الخليج العربي إلى ليبيا والسودان ومن روسيا والقارة الأوروبية إلى الصين، وفي رحلة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إثيوبيا الكثير من الدروس والعبر، التي لا يفطن إليها إلا من عاين حجم الهوان الذي وصلت إليه السياسة الخارجية المصرية وفي القلب منها السياسة تجاه القارة السمراء في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي جاءت أضعف حلقاتها تحت حكم جماعة الإخوان في عام، كان كفيلا بتراجع حاد وموجة غضب غير محدود من أفكار مغلوطة كادت تدفع مصر إلى مواجهات عبثية. في أديس أبابا، صعد الرئيس السيسي إلى منصة البرلمان الإثيوبي بمجلسيه، في جلسة تاريخية بكل المقاييس، موجها رسالة حب ومودة من شعب مصر إلى شعب إثيوبيا باسطا يديه بالخير ومعبرا عن إرادة صادقة في تعميق علاقات التعاون بعد أن وقعت مصر وإثيوبيا والسودان اتفاق المبادئ حول سد النهضة في الخرطوم يوم الاثنين الماضي. وقد لقي عمق وصدق كلمات الرئيس السيسي في البرلمان الإثيوبي استحسانا وصنعت فارقا في الشارع الإثيوبي وهو ما رأيناه في أيام الزيارة الثلاثة، وكم كان لعبارة "الواجب يملي علينا، معا، أن نترك لأجيالنا الجديدة ميراثا أفضل مما آل إلينا" وقع جميل على الأشقاء في حوض النيل وهم يتابعون رئيس مصر يقترب من قلوبهم وعقولهم، وينزع عن العلاقات المشتركة هواجس الأمس ومخاوف الغد من أجل البناء والتنمية للجميع على ضفاف النيل الخالد. في كلمة السيسي في البرلمان الإثيوبي تجسدت الواقعية الجديدة في السياسة الخارجية المصرية، والتي تصوغها القيادة السياسية في مبادئ واضحة لا مجال فيها للتأويل، فهي تعترف بحقوق الشركاء الآخرين وأمانيهم القومية دون الإضرار بمصالحهم، ومن ثم فالصدام لا يحل المشكلات بين الدول، وفي التقارب المصري – الإثيوبي الأخير الدليل على إمكان بناء جدار الثقة من جديد، وأن الحل الحقيقي للأزمات هو المواجهة وليس التسويف والحوار المباشر وليس الانسحاب أو المقاطعة أو السماح لأطراف مغرضة في نياتها أن تحدث مزيدا من الشقاق في العلاقات بين بلدين يربطهما "حبل سري" مثلما استعار الرئيس السيسي تعبير رئيس الحكومة الإثيوبية الراحل ميليس زيناوي في إشارته إلى نهر النيل. وكان لافتا تأكيد الرئيس السيسي من جديد على أن مصر عازمة على العودة إلى مكانتها في إفريقيا والعالم بما يليق بشعبها وحضارتها، وفي تأكيده السابق تذكرة إلى بعض من توهموا يوماً أن مصر في حالة ضعفها يمكن إملاء ما يرغبون من شروط عليها. نعم، كانت الدولة المصرية بعد ثورة 25 يناير قد مرت بمرحلة "رخوة" كادت تعصف بمقدرات الأمة إلا أنها تماسكت وصمدت في مواجهة موجات متلاحقة من الفوضى والعشوائية حتى تصل إلى حالة الصلابة الكاملة وتبرهن كل يوم على قدرتها على الوقوف في وجه السيناريوهات المعاكسة التي هددت كيانها ومقدراتها وعلاقاتها بالدول الأخرى. واقعية مصر تجسدت في التعامل بحسابات دقيقة مع ملف سد النهضة وتركت ما بعد وثيقة المبادئ إلى اللجان الفنية التي ستحكم على سلامة السد من الناحية الهندسية وسعة التخزين. وواقعية مصر هي التي فضلت التعامل مع الموقف من خلال مبادئ القانون الدولي العام ومنحت الدبلوماسية ووسائلها فرصة لحل المشكلات. فقد اتفقت القاهرةوأديس أبابا على الالتزام بمدة 15 شهرا للحل من بينها 12 شهرا كحد أقصى للدراسات المتعلقة بمشروع السد ثم ثلاثة شهور أخرى تقوم خلالها الأطراف الثلاثة – مصر وإثيوبيا والسودان – بالتوصل إلى ثلاث اتفاقيات وهي اتفاقية حول أسلوب ملء سد النهضة بالمياه، واتفاقية تشغيل السد، وآلية التعاون بين الدول الثلاث بموجب الاتفاقيتين الأولى والثانية. وفي تلك الخطوات المفصلة الرد على الانتقادات المتسرعة التي حاولت التشكيك في الاتفاق وفي قدرة المفاوض المصري على حماية حقوق الشعب المصري رغم علم الكثيرين – بمن فيهم المنتقدون – أن كفاءة المفاوضين المصريين سواء الفرق القانونية أو الفنية أو الدبلوماسية ليست محل شك، خاصة عند التعامل مع مبادئ القانون الدولي. ومثلما قدم المفاوض المصري قدرة في التعامل مع المتغيرات في ملف مياه النيل وإدارة دفة الأحداث بما يخدم المصلحة الوطنية، فإن المناسبات الأخيرة مثل المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ وزيارتي الرئيس السيسي لكل من السودان وإثيوبيا قد أسهم في تغيير منظور الآخرين لطريقة التعامل مع مصر. فقد قبلت إثيوبيا بإعلان المبادئ الموقع في الخرطوم رغم أنها قد رفضته قبل عام ونصف العام وابتعدت عن التشدد في مواقفها السابقة والتي صنعت فجوة عميقة بين البلدين كنا نظن أن ردمها لن يكون سهلا. والأمر الثاني، إزاحة قدر كبير من المشكلات المعوقة لتقدم مصر في خطط التنمية الإقتصادية عن كاهل المصريين من أجل التفرغ للبناء في المرحلة المقبلة، والأمر الثالث هو التغير في مواقف القارة الأوروبية والولايات المتحدة في شرم الشيخ ودعوة الرئيس السيسي لزيارة ألمانيا من أجل توثيق علاقات التعاون مع مصر في ثوبها الجديد الأكثر ثقة في النفس والأكثر قدرة على حماية مصالحها. قوة وحجة التحرك المصري في ملف السياسة الخارجية والعلاقات مع دول يربطها والشعب المصري مصير واحد ينعكس بل وسيتجلى، في كثير من جوانبه على المشهد الداخلي، خاصة ما يمكن تسميته بالصلابة في المواجهة والقضاء على مشروع الفوضى المستمرة، والذي خططت القوى المعادية للإستقرار في البلاد إلى استثماره إلى أقصى حد ممكن حتى ولو على حساب بقاء الأمة والدولة وأمن المواطنين. لقد رسمت الأسابيع الأخيرة صورة مشرقة لبلد يسعى لمستقبل أفضل فيما تفرغ بعض هواة السياسة إلى إثارة الشكوك والشائعات ونشر الأباطيل والطعن في وطنية المخالفين والناجحين دون حساب للمصلحة العامة التي غابت عن قاموسهم وتحولت إلى عبارة ينشدون بها مصالحهم الشخصية. تستمد الجبهة الداخلية اليوم قوتها من تلك الصورة المحترمة لمصر في الخارج وهو ما يعني التحرك في الفترة المقبلة نحو مزيد من تفعيل القانون ومواجهة بقايا المشروع الفوضوي بقوة بعد أن زالت أي شكوك في قدرة الدولة على التصدي لدعاة الهدم. اليوم دور مؤسسات الدولة أن تتحرك لمواجهة الفوضى والفاسدين فهؤلاء الفشلة لا يقلون خطورة عن مشروع الإرهاب الإخواني وهم أول من يعطي لإرهاب الجماعة زخما وفرصة للنفاذ. ولن تحقق مصر مقولة الرئيس السيسي التي يكررها دائما عن ضرورة البناء وإقامة مشروعات عملاقة ب "أسرع ما يمكن" ما لم ننجح في بناء الثقة بين مؤسسات الدولة وإزالة الهواجس من قاموس المصريين. فالقضية الأكثر خطورة في مجتمعنا اليوم هي الحق في الحياة سواء الحفاظ على مياه النيل أو مواجهة خطر الإرهاب ويمكن أن تكون الإرادة السياسية التي توافرت في قضية سد النهضة أداة قياس جيدة لمزيد من الوضوح والتعامل الصارم مع قضايا الشأن الداخلي. وعلى رأسها حالات الانفلات في كثير من المؤسسات التي تهدر قيمة ما يدعو إليه ويعمل من أجله الرئيس وحكومته. القمة العربية واستعادة الشرعية في اليمن يعقد قادة العالم العربي قمة جديدة برئاسة مصر يوم غدٍ – السبت – بمدينة شرم الشيخ بعد يومين من بدء عملية عسكرية موسعة لاستعادة الشرعية في دولة اليمن الشقيق بعد تغول جماعة الحوثيين وتهديد كيان الدولة بما يمثل خطرا كبيرا على منظومة الأمن القومي العربي التي تعرضت لهزات عنيفة في السنوات الأخيرة وقد جاءت التطورات في اليمن لتضع القادة العرب أمام مسئولياتهم والتنسيق المشترك على أعلى المستويات لضمان عودة الأمور إلى نصابها في جنوب الجزيرة العربية وفي مضيق باب المندب. يترأس الرئيس عبد الفتاح السيسي قمة القادة والزعماء العرب وقد أثبتت الأحداث المتلاحقة في العالم العربي سلامة السياسة المصرية في التعامل مع ملف الأمن العربي ومواجهة خطر التنظيمات المسلحة التي استشرت في المنطقة طولا وعرضا، كما كان الطرح المصري الخاص بتشكيل قوة عربية مشتركة لمواجهة خطر التنظيمات الإرهابية في ربوع المنطقة سابقا على التدخل لحماية الشرعية في اليمن من خلال رؤية صائبة كانت ترى الخطر على الأبواب وهو خطر لا علاقة له بصراع سني – شيعي مثلما يسعى البعض إلى الترويج لتلك المقولات لصالح مزيد من الفوضى الإقليمية وتدمير مقدرات شعوب المنطقة وهو المأزق الذي انجرت إليه، للأسف بعض الأطراف في المنطقة وساهمت في تعريض وحدة وسلامة عدد من الدول للانهيار والتفكك. تدخل مصر قمة الغد وهي تثق أن ما فعلته في إدارة الأزمة مع إثيوبيا وما تؤمن به من مبادئ لتقوية الأمن القومي العربي يضعان رؤية استرشادية للتعاون العربي المشترك في وقت الأزمات عندما يحدق الخطر ويطل برأسه. لقد أثبتت أحداث اليمن وتغول الحوثيين واعتداؤهم على الشرعية أن خطر الإرهاب لا يستثني أحداً وأن ما يجري في سوريا وليبيا والعراق لا ينفصل عما يجري في جنوب الجزيرة العربية من خطر الجماعات الإرهابية وخطر الأطماع الإيرانية التي لم تطرق أبواب العالم العربي فقط بل هي اليوم في غرف النوم العربية بعد نجاح مخطط الفوضى في رسم صورة بائسة للمنطقة. إن مواجهة الإرهاب وأطماع إيران يتطلب قدرا من الرشد العقلاني في المواجهة والتركيز على ما يمكن تحقيقه في تلك المرحلة ويدرك القادة العرب اليوم أن هناك فرصة سانحة لجمع الشمل في قمة شرم الشيخ ويدركون أيضا أن الحل في بلد مثل سوريا لابد أن ينصب على عدم التمسك بمطالب تعجيزية في تلك المرحلة ولكن في رؤية توافقية تجنب الأشقاء في سوريا ويلات ما يجري على الأرض ومأساة المتاجرة بمعاناتهم في عواصم الدول الكبرى والتي لم يحصد منها المواطنون السوريون سوى الرماد. كما ينطوي الوضع في ليبيا على درس كبير للعالم العربي هو أن تشابك المصالح وتدخل دول، لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الداخلي، لمجرد إثبات الوجود واللعب على تناقضات تزيد بها من سطوتها الإقليمية يجب أن يتوقف عند تلك النقطة وأن الوقوف إلى جانب الجيش الوطني الليبي ينبغي أن يحتل أولوية قصوى في المرحلة المقبلة. نقلا عن جريدة الأهرام