ربما تكون المرة الأولي منذ مسار التسعينيات في الجزائر, وما أعقبه من أحداث الدم والنار التي لفت البلاد في دوامة الإرهاب, تشهد الجزائر هذه المرة انتخابات تشريعية هادئة إلي حد ما, قياسا بالسنوات الماضية, حيث باتت النتائج الانتخابية شبه محسومة سلفا هذه المرة لمصلحة أحزاب التحالف الرئاسي الثلاثي الحاكم( جبهة التحرير التجمع الوطني الديمقراطي حركة مجتمع السلم) بالفوز والحصول علي العدد الأكبر من مقاعد البرلمان البالغ عددها389 مقعدا, وذلك بعد أن شهدت الجزائر فترة هدوء سياسي نسبي في العامين الماضيين بسبب النجاح المطرد لمبادرة ميثاق السلم والمصالحة التي صاغها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في نهاية عام2005, وحظيت بموافقة97% من الشعب الجزائري في الاستفتاء الجماهيري. تلك المبادرة التي استطاع الرئيس بوتفليقة من خلالها أن يسحب البساط السياسي والجماهيري من تحت أقدام كثير من الأحزاب والجماعات السياسية والدينية المشاركة, وكان في مقدمتها بالطبع جبهة الإنقاذ الإسلامية التي أحدثت دويا سياسيا في البلاد والمنطقة أكثر من عشر سنوات, وذلك عبر سد الأبواب والنوافذ بمقتضي السلم والمصالحة في وجهها, والامتناع علي قيادييها وأنصارها من العودة أو ممارسة العمل السياسي. واليوم يتوجه أكثر من19 مليون ناخب جزائري من أصل33 مليونا هو العدد الإجمالي لسكان الجزائر لاختيار389 نائبا للبرلمان من أصل12 ألف مرشح ينتمون إلي24 حزبا سياسيا والعديد من القوائم المستقلة بعد حملة سياسية انتخابية استمرت أكثر من شهر وشهدت في أحيان كثيرة بعض السجال السياسي وحروب تصفية حسابات حتي بين أحزاب التحالف الثلاثي من ناحية وأحزاب المعارضة ذات الإرث التاريخي من ناحية أخري بالرغم من محدودية هامش الحركة والدعاية الانتخابية هذه المرة بفعل لائحة الضوابط التي وضعتها السلطات بسبب الظروف والترتيبات الأمنية التي أخذتها السلطات في الاعتبار باهتمام كبير في سالف الأيام الماضية بعد سلسلة التفجيرات الإرهابية المروعة التي ضربت العاصمة فلجأت علي أثرها السلطات لوضع خطة أمنية شاملة ورفع حالة الاستنفار الأمني القصوي لمنع تكرار فصول ودراما سنوات العشرية السوداء في البلاد, وتأمين حماية الانتخابات التي أصرت السلطات علي إجرائها في موعدها لإبلاغ الجميع في المنطقة والعالم رسالة واضحة, أنه لا خوف علي الجزائر من عودة سنوات الدم والتقتيل والإرهاب الأسود, وأن كل ما حدث ووقع من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لا يعدو كونه فرقعة إعلامية وإثبات وجوده في الساحة الجزائرية والمغاربية بالرغم من الضربات الانتقامية التي تلقاها طيلة الأشهر الماضية من قبل قوات الجيش والأمن الوطني في الجزائر في إطار ما يعرف بالحرب الاستباقية قبل أن يستفحل وتشتد قبضة ودموية هذا التنظيم. وعملا بقاعدة رب ضارة نافعة ومع تزامن وقوع العمليات الإرهابية مع بدء وانطلاق الحملات الانتخابية في ذلك الوقت, فإن كل الأحزاب الجزائرية وحتي مجاميع القوائم المستقلة لم تتأخر لحظة في جعل قضية مكافحة الإرهاب من جديد هي القاسم المشترك للجميع علي السواء, بالطبع بجانب رفع عدد من الشعارات والقضايا الأخري التي فرضت نفسها علي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للجزائر في الفترة الماضية, وباتت نقطة تلاق للجميع في منتصف الطريق في بعض الأحيان, وتتعلق معظمها بقضايا الفساد ومحاربة الرشوة التي تفشت في البلاد في الفترة الأخيرة, وكذلك مكافحة البطالة ورفع مستوي المعيشة, حيث كانت ومازالت تلك عناوين رئيسية منذ سنوات الإرهاب الأولي, وإن لم تكن قد تكاثرت وتعددت صورها بسبب المخلفات التي ولدتها مأساوية الإرهاب, لذا كان برنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي والتنموي الشامل الذي قدمه الرئيس بوتفليقة في العام الماضي لعلاج مآسي ودمار وانهيار الجزائر بسبب سنوات الإرهاب طوق نجاة للجميع. وكان لافتا أنه علي الرغم من وجود العديد من الأحزاب السياسية المشاركة في تلك الانتخابات, فإنه يلاحظ أنها لم تقدم أي برامج جديدة بها خلال تلك الدورة, بل قفزت علي نفس برامج أحزاب التحالف الثلاثي الرئاسي ورفعت نفس الشعارات والعناوين بتأييد برنامج الرئيس بوتفليقة للإصلاح الشامل في الجزائر, الذي قدمه برؤية شاملة وتوسعية لإحداث تنمية عملاقة للبلاد تعوض مآسي الإرهاب, وقدرت تكلفته بمبلغ150 مليار دولار, خاصة أن خزانة البلاد مليئة هذه الأيام بأكثر من90 مليار دولار حصيلة ارتفاع أسعار البترول في العامين الماضيين, حيث يشمل هذا البرنامج جميع مناحي الحياة في الجزائر: خدمات صحية, وتعليمية, وإسكان, وضمان اجتماعي, ورفع الأجور, وعلاج مشكلات الفقر والبطالة, وبالتالي لم تجد أحزاب المعارضة أفضل من تلك الفرصة للقفز علي برنامج الرئيس بوتفليقة, فصح قول الجزائريين عليها بالفعل بأنها مجموعة من الخفافيش. لذا باتت القاعدة التي تحكم الجميع, أحزاب السلطة والمعارضة, أنه لا مفر من الاعتماد علي برنامج الرئيس مادام لا يوجد جديد يذكر أو قديم يعاد هذه المرة. مفاجأة التحالف الرئاسي ويبدو أن حالة الانقسام والتباعد التي لفت حركة أحزاب المعارضة بعد فشل جهود بعض قياداتها في جمعها وتصنيفها في قائمة ائتلاف سياسي موحد, تخوض من خلالها تلك الانتخابات, تلك الحالة لم تكن من نصيبها وحدها منذ بداية الحملة الانتخابية, بل امتدت وكرت مسبحتها لتشمل أيضا وتضرب جهود البعض في التحالف الرئاسي الثلاثي لخوض غمار المعركة عبر قائمة موحدة, تلك الجهود التي سعي إليها وبح صوته من أجلها أبوجرة سلطاني أحد قيادات التحالف وزعيم حزب حركة مجتمع السلم لإقناع جناحيه الأولين والأقوي في التحالف عبدالعزيز بلخادم رئيس الحكومة والأمين العام لحزب جبهة التحرير, وكذلك أحمد أويحيي زعيم التجمع الوطني الديمقراطي لإعداد تلك القائمة الموحدة, لكنهما رفضا وصما الأذن عن دعوته وجهوده, وكانت الحجة المقنعة للبعض أن هناك تباينا واختلافا في برامج ورؤي أحزاب التحالف باستثناء اتفاق واحد وهو تأييد برنامج الرئيس, فكيف يتم إعداد قائمة موحدة؟ ولمصلحة من؟! وبالفعل فشلت الجهود والدعوة وقرر كل حزب خوض المعركة وحده عبر قوائمه وبرنامجه وشعاره الخاص به, حيث كان شعار حزب جبهة التحرير اليد في اليد لبناء جزائر الغد, بينما كان شعار حزب التجمع الوطني الديمقراطي ثلاث كلمات فقط هي: أمل عمل استقرار, أما برنامج وشعار حركة مجتمع السلم ذات الاتجاه الإسلامي المعتدل فلخصه زعيمه سلطاني في عبارة معا نبني جزائر للمستقبل. ولم يقتصر الأمر علي فشل جهود إعداد وخوض الانتخابات بقائمة موحدة فحسب, بل تعداه الأمر ووصل إلي نشوب حالة من اندلاع حرب تصفية الحسابات والفتك من قبل كل زعيم حزب برفيقيه في التجمع, حيث تباري كل واحد, خاصة عبدالعزيز بلخادم وغريمه أحمد أويحيي الذي كان يتولي قبله وحتي وقت قريب رئاسة الحكومة تحميل كل واحد الآخر مسئولية تعثر وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد, فضلا عن تباين وبون شاسع من طرحهما الخاص بمكافحة وملاحقة الإرهاب والقضاء عليه. ففي الوقت الذي يدعو فيه بلخادم إلي فتح أبواب المصالحة الوطنية من جديد في وجه الجماعات الإرهابية ودعوتهم باللين والإقناع للنزول من الجبال وتسليم أنفسهم للاستفادة من قرارات العفو الرئاسي التي يخولها ميثاق السلم والمصالحة في الحال, فإن أويحيي لم يعجبه هذا الطرح ويرفضه ويدعو إلي استخدام القبضة الحديدية مع تلك الجماعات, وضرورة استئصالها من الحياة بشكل كامل إذا كانت الجزائر تريد القضاء علي الإرهاب وتنعم بالاستقرار إلي الحد الذي يجعله يفاخر حتي هذه الساعة ويطلق علي نفسه في حملة انتخابية لحزبه أو إطلالة إعلامية علي مدي اليوم بأنه شخص استئصالي وإقصائي ومرعب للجماعات الإرهابية. ومع تزايد حدة الخلافات والتلاسن بشكل غير مباشر لم يجد كل زعيم حزب من التحالف الثلاثي بدا من الإسراع لتقديم جردة حساب ختامية, وكانت المفاجأة للجميع في الجزائر عندما حسموا مسبقا نتائج الانتخابات, خاصة عندما أعلن عبدالعزيز بلخادم, الأمين لحزب جبهة التحرير, أن حزبه بات علي ثقة كبيرة ويقين مطلق بأنه سوف يحصل ويستحوذ علي المركز الأول, وسيكون صاحب الأغلبية في مقاعد البرلمان المقبل إلي الحد الذي بلغ به الثقة أن هدد باللجوء إلي الاستقالة والتنحي عن رئاسة الحزب إذا لم يحصل حزبه علي الأغلبية, انطلاقا من أن حزبه هو الحزب العتيد وصاحب التاريخ الطويل في مكافحة وإنهاء الاستعمار الفرنسي, ولديه بالفعل خزان بشري من الناخبين والمؤيدين بطول الجزائر وعرضها, ناهيك عن أن الحياة لم ولن تستقيم في الجزائر دون قيادة جبهة التحرير للحكومة والقرار, وأعاد الجميع مرات عديدة إلي فترة التسعينيات عندما تعثر الحزب خاضت جبهة الإنقاذ الانتخابات فتعطل المسار السياسي, ودخلت الجزائر دوامة الإرهاب وحرب القتل وجز الرءوس, وكان ما كان حتي وقت قريب. إلا أن أويحيي زعيم التجمع الوطني الديمقراطي لم يتأخر هو الآخر عن الإعلان عن أن حزبه سيحصل علي المركز الثاني في تلك الانتخابات, وليس الأول, بسبب بعض الخلافات والاحتقان السياسي الذي شهده الحزب ونتج عنه بعض الانشقاقات, لكن أويحيي سرعان ما نجح في احتوائها وأحبط تكتيكات فريق المنشقين بفضل قبضته القوية والحضور السياسي الذي يحظي به في الخريطة السياسية في الجزائر, خاصة أنه أقرب مدني في السلطة إلي المؤسسة العسكرية في الجزائر. وربما لم يفت حركة مجتمع السلم الضلع الثالث في التحالف الرئاسي وزعيمها سلطاني أن يخرج من غمار المعركة الانتخابية دون جني مكاسب حقيقية, فبادر إلي الحسم والتأكيد وحتي الرهان السياسي علي أن حزبه سيحصل علي نحو30% من مقاعد البرلمان, أي ما يعادل مائة مقعد, وهو الأمر الذي جعل البعض يصرف نظره بشكل مبكر ويردد أنها انتخابات محسومة ومحجوزة مقاعدها لمصلحة أحزاب التحالف الحاكم.