فيما وصفه البعض بأنه بوادر حرب عالمية باردة جديدة ، وفى رد فعل عنيف على الخطط الأمريكية لنشر منظومة دفاعية مضادة للصواريخ في أوروبا ، أبدت روسيا غضبها تجاه أمريكا،ولكن هذه المرة ليس عبر التهديدات بل بالأفعال من خلال تعليق عضويتها في معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية التي وقعتها مع الناتو فى عام 1990 . ففى خطاب مثير أمام البرلمان الروسى في 26 - 4 - 2007 ، أعلن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين تعليق عضوية بلاده فى اتفاقية القوات التقليدية فى أوروبا التى تحد من الانتشار العسكري فى أنحاء القارة الأوروبية وتضع قيودا على حجم التسلح فى الدول الأعضاء . وأضاف بوتين أنه يجب على شركاء روسيا فى معاهدة الحد من القوات التقليدية في أوروبا أن يحددوا مواقفهم من مستقبل المعاهدة خلال فترة عام واحد ، قائلا :" إننا توجهنا إلى شركائنا مرارا ولكن لم نلحظ من جانبهم أى حركة نحو المصادقة على المعاهدة.وينبغي عليهم أن يحددوا مواقفهم من مستقبل هذه المعاهدة خلال فترة وجيزة نسيبا أقصاها عام واحد". وأعاد الرئيس الروسى إلى الأذهان أن روسيا لم توقع المعاهدة وتصادق عليها فحسب بل وتقوم بتنفيذ جميع بنودها على أرض الواقع ، وبالتالى فإنها ستمتنع عن تطبيق المعاهدة إذا لم يقدم حلف الناتو على تقليص أسلحته. وجاء القرار الروسى في أعقاب سجالات كلامية في الفترة الأخيرة بين روسيا والغرب ، ففى 18 - 4 - 2007 ، دعت روسيا إلى تعديل معاهدة الحد من القوات التقليدية فى أوروبا وحذرت من إنشاء الولاياتالمتحدة منظومة الدفاع المضاد للصواريخ فى أوروبا. وقال نائب وزير الخارجية الروسى الكسندرجروشكو في هذا السياق إن معاهدة الحد من القوات التقليدية فى أوروبا يجب أن يتم تعديلها كى تطابق الحقائق المعاصرة ، موضحا أن المعاهدة القديمة والمعمول بها الآن لم تعد واجبة التنفيذ كما فى السابق. وأشار في السياق ذاته إلى أن المعاهدة المعدلة والتى تم توقيعها فى عام 1999 ولم يتم العمل بها حتى الآن بسبب تلكؤ الناتو فى تنفيذها، تفقد علاقتها بالواقع ، مشددا على ضرورة حل مسألة كيفية تعديل المعاهدة بشكل قانونى كى تتفق مع الوضع المعاصر. وحذر نائب وزير الخارجية الروسى ايضاً من إنشاء الولاياتالمتحدة لخط متقدم لمنظومة الدفاع المضاد للصواريخ فى أوروبا، وقال إن ذلك قد يؤدى إلى سباق تسلح جديد وزعزعة الاستقرار فى المنطقة والعالم ، كما أن مثل هذه الأعمال قد تدعم الرغبة فى الاعتماد على القوة فى مسائل الأمن وليس على الآليات الدولية لمراقبة التسلح.وأكد على أهمية إدراك حقيقة أن عناصرمنظومة الدفاع المضاد للصواريخ التي تنوى الولاياتالمتحدة نشرها فى اوربا الشرقية فى غضون عامى 2011 ،2012 هي جزء لا يتجزأ من سلاح الولاياتالمتحدة النووي الإستراتيجي.
وفى أول رد فعل غاضب على الإعلان الروسى ، أعرب نائب الأمين العام لحلف الناتو جي روبرتس عن أمله في ألا يكون إعلان الرئيس فلاديمير بوتين عن تعليق عضوية روسيا فى معاهدة الحد من القوات التقليدية في أوروبا قرارا نهائيا ، موضحا أنه سيتعين على وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذى سيشارك فى اجتماع مجلس "روسيا- الناتو" الذى سيعقد فى أوسلو قريبا توضيح موقف روسيا تجاه هذه المسألة. ويري مراقبون أن رد فعل روسيا العنيف جاء بسبب استمرار توسع الناتو باتجاه الحدودالروسية، وشروعه في ضم المزيد من دول أوروبا الشرقية ،بالإضافة إلى سعى الولاياتالمتحدة لإنشاء منظومة دفاع صاروخية بالقرب من حدودها في بولندا والتشيك ،وهوما وصفه البعض بأنه بمثابة إحكام الطوق العسكري على روسيا . وجدير بالذكرأنه فى عام 2004 ، توسع حلف الناتو باتجاه الشرق ليشمل سبع دول كانت منضوية تحت التكتل السوفيتى السابق وهى بلغاريا، واستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، مما سبب قلقا بالغا لروسيا بسبب زحف الحلف العسكرى باتجاه حدودها وخاصة من خلال ليتوانيا ولاتفيا واستونيا وهى الدول الثلاث المطلة على بحر البلطيق، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدا ًلعمقها الجغرافى ،خاصة أن هذه الدول الثلاث لم توقع معاهدة الحد من انتشار الأسلحة التلقيدية في أوروبا . كما أن هناك دعوات حاليا من الحلف لضم كل من أوكرانيا ومولدافيا وجورجيا إلى عضويته ، إلى جانب أن الولاياتالمتحدة تسعى لإقامة قواعد عسكرية جديدة في أذربيجان بحجة مراقبة إيران إلا أن روسيا تؤكد أن تلك الخطوة تهدف أساسا لترسيخ أقدامها في هذا البلد الغني بالنفط على شاطئ قزوين. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل وقعت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء زيارتها رومانيا في 6 ديسمبر الماضى اتفاقية تسمح للقوات المسلحة الأمريكية باستخدام قواعد عسكرية على أرض رومانيا ، حيث تسمح الاتفاقية بنشر قوة أمريكية قوامها 1500 شخص في قاعدة "ميخائيل كوجالنيتشيانو" قرب البحر الأسود، وباستخدام المطار العسكري قرب ميناء "كونستنزا" وقاعدة "باباداج" ومركزي التدريب "تشينكو وسماردان" بدلتا الدانوب. وتصاعدت المخاوف من عودة أجواء الحرب الباردة ثانية بعد أن أعلن الرئيس الأمريكى جورج بوش في بداية عام 2007 عن عزم واشنطن نشر مظلة دفاع صاروخية في بولندا والتشيك ، زاعما أن المظلة الصاروخية في أوروبا الشرقية هي لحماية أعضاء حلف الأطلسي الجدد من صواريخ "محور الشر" أي إيران وكوريا الشمالية بعيدة المدى . إلا أن روسيا رأت أن مظلة الصواريخ الأمريكية في بولندا والتشيك، تخل بميزان القوى في أوروبا ، مؤكدة أن الصواريخ الإيرانية والكورية لا تبلغ الأراضي الأمريكية عبر أجواء بولندا والتشيك، فطهران لا تملك أصلا صواريخ عابرة للقارات، ولذا فإن القواعد الأمريكية بأوربا الشرقية معدة لمواجهة القدرات الصاروخية الاستراتيجية الروسية . وحسبما ذكر محللون روس فإن إعلان بوش الذي جاء متزامنا مع تقرير أمريكى وضع روسيا على لائحة الدول التي تشكل خطرا على الولاياتالمتحدة مثل كوريا الشمالية وإيران يؤكد أن بلادهم أصبحت هدفا محتملا مثل دول محور الشر. ويرى المحلل السياسي والعسكري الروسى نيقولاي خورونجي في هذا الصدد إن فكرة نشر القواعد العسكرية الأمريكية خارج الولاياتالمتحدة تستدعي تطوير البنية الأساسية العسكرية في المناطق المستهدفة، مما سيؤدي إلى نسف معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا،و التي تلفظ آخر أنفاسها منذ انضمام دول البلطيق إلى حلف الناتو بدون الانضمام إلى هذه المعاهدة . ونتيجة ذلك ، اعتبر الرئيس الروسى في مؤتمره الصحفي السنوي في الكرملين في أوائل فبراير الماضى أن حجج نشر منظومة الدفاع المضاد للصواريخ في أوروبا باطلة وغير مقنعة ، موضحا أن الأمر كله يتعلق بتهديد روسيا مباشرة وأنه سيثير رد الفعل المطلوب . وقال بوتين في هذا الصدد :" إن اختصاصينا لا يجدون أن منظومة الدفاع المضاد للصواريخ التي يجري نشرها في بلدان أوروبا الشرقية تستهدف التصدي للخطر الذي يأتي من إيران أو إرهابيين معينين" وكان الرئيس الروسى فلاديمير بوتين قد وصف تبرير مخططات نشر عناصر المنظومة الأمريكية للدفاع المضاد للصواريخ في أوروبا (في بولندا وتشيكيا بالتحديد) بخطر الإرهاب بأنه "مضحك" وأعلن من جديد عن عدم وجود خطر صاروخي من جانب إيران وكوريا الشمالية بالنسبة للولايات المتحدة. وتساءل بوتين قائلا "عن أي إرهابيين يدور الحديث ؟ فهل يمتلك الإرهابيون سلاحا باليستيا؟ ، وأضاف " أن مسارات تحليق الصواريخ التي قد تطلق من أراضي إيران نعرفها جيدا لذا تبدو هذه الحجج لنا باطلة وواهية ولهذا كله علاقة مباشرة بنا وسيثير رد الفعل المطلوب" واختتم بوتين تصريحه بالقول: "إن الرد سيكون فعالا بأعلى درجة" وهو ذات الحديث الذي كرره وبقوة في مؤتمر ميونيخ للأمن ودعا روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي للرد عليه . كما حذر من ناحيته وزير الدفاع الروسي سيرجي ايفانوف صراحة من عواقب نشر هذا الدرع الصاروخي خلال مشاركته فى افتتاح أعمال مؤتمر الأمن الدولي في مدينة ميونيخ بألمانيا في فبراير الماضى ،عندما أعلن أن المشروع الأمريكي إشارة غير ودية ستؤثر في العلاقات بين البلدين ، وحذر من أن الخطوة الأمريكية ستجبر بلاده على اتخاذ إجراءات مضادة، مشيراً الى إمكانية إعادة موسكو النظر في علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي. هذا وبينما تدعي واشنطن من ناحيتها أن ما سيتم نشره في أوروبا غير موجه ضد روسيا وإنما يهدف لتوفير الحماية من الصواريخ التي قد تطلقها البلدان التي وضعتها واشنطن في قائمة "محور الشر" ككوريا الشمالية وإيران. إلا أن موسكو من ناحيتها ترى أن نشر عناصر من المنظومة الأمريكية للدفاعات المضادة للصواريخ في أوروبا يندرج في إطار إعادة انتشار الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا في اتجاه روسيا. ويرى محللون فى روسيا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية أطلقت مبادرتها لوضع صواريخ مضادة للصواريخ في شرق أوروبا قرب روسيا كضغط على روسيا لكي تكون مستعدة لتقديم تنازلات في عدد كامل من المسائل هى: أولا -أن تنسحب موسكو من الساحة السوفيتية سابقا. ثانيا - ألا تضع موسكو العراقيل على مشروع إنشاء خطوط أنابيب جديدة لنقل النفط والغاز من آسيا إلى أوروبا دون المرور في الأراضي الروسية. ثالثا - لا يجوز أن تعيق روسيا انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. رابعا – الوقوف ضد إيران وعدم مساندتها. والمشكلة التى يراها المراقبون هى أنه ستنتهي في 24 مايو مدة قرار مجلس الأمن الدولي بشأن إيران. ولأن إيران لن تنفذه فإن الولاياتالمتحدة ستطالب بقرار جديد يراعي إمكانية استخدام القوة العسكرية لتسوية المشكلة النووية الإيرانية. ولا يستبعد أن تعرض العلاقات الروسية الأمريكية حينذاك للمزيد من السوء .
ووفقا للمراقبين فإن التحذيرات المتبادلة بين روسياوالولاياتالمتحدة في الفترة الأخيرة على خلفية توسع الناتو وتغلغل أمريكا بالقرب من حدودها ينذر بأن هناك بالفعل بوادر حرب باردة جديدة ، ويؤكد هذا مضاعفة موازنة الدفاع الروسية التي عانت شح التمويل في فترة التسعينات حيث تضاعفت من 8,1 مليار دولار عام 2001 إلى 31 مليار دولار لعام 2007 . ورغم مضاعفة الكرملين للإنفاق العسكري خلال السنوات القليلة الماضية إلا أن الرئيس الروسي بوتين يصر على أن موازنة روسيا العسكرية ما زالت ضئيلة أمام نظيرتها الأمريكية التي تفوقها 25 مرة.
كما أن تصريحات وزير الدفاع الروسي سيرجي ايفانوف أمام مجلس الدوما مؤخرا حملت مشهدا يعيد للأذهان مواقف الأزمات الكبرى بين روسيا وأمريكا من جديد وبخاصة عندما أشار إلى أن موسكو لن تسمح لأحد بالتدخل في شأن مواصلة تطوير قدراتها النووية ومؤكدا أن بلاده ستستخدم السلاح النووي إذا تعرضت لعدوان. وحدد ايفانوف أمام مجلس الدوما توجهات السياسة الدفاعية لبلاده والتي تعكس وبقوة عودة الجانب الروسي إلى فكر المواجهة بأكثر صورة من التعايش السلمي حين قال إن المؤسسة العسكرية الروسية ستواصل تعزيز قدراتها على كل المستويات وإن عمليات خفض القوات المسلحة ستتوقف عند المستوى الحالي ولن تلجأ موسكو إلى خفض جديد حتى يكون الجيش قادرا على تلبية متطلبات الأمن الوطني علما أن تعداد الجيش الروسي حاليا نحو 1,3 مليون عسكري. ويؤكد المخاوف السابقة الانتقادات الشديدة التى وجهها بوتين لواشنطن خلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ الثالث والأربعين حول الأمن والتى أدان خلالها نهجها الاحادي وسياستها المهيمنة وتجاهلها روسيا والقوى الناشئة الاخرى ،وأيضاً اتهامه للولايات المتحدة بإثارة سباق التسلح النووي بتطويرها برنامجها الخاص بدفاع الصواريخ الباليستيية ، وأيضاً هجوم بوش على الحلف الأطلسي والذي وصفه بأنه ينتهك الاتفاقيات المتعلقة بخفض القوات التقليدية في اوروبا. وقد قوبلت هذه التصريحات برد فعل أمريكى عنيف حيث أعلن السيناتور الجمهوري جون ماكين ، المرشح القوي لانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة أن روسيا تتحول إلى نفوذ إمبريالي في منطقتها ، ما يعنى من وجهة نظره ضرورة التصدي والتحدي للتطلعات والأطماع الروسي. كما وصف المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جوردون جوندرو اتهامات الرئيس الروسي بأنها خاطئة ، كما اعتبر عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف ليبرمان المشارك في مؤتمر ميونيخ أن خطاب بوتين "استفزازي وينطوي على لهجة تشبه فترة الحرب الباردة". وقال العضو الجمهوري بالمجلس لينزي جراهام أيضا إن الرئيس الروسي "يسهب في التظاهر بالشجاعة ويفتقر إلى الواقعية". ومن جهته، رفض وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس اتهامات بوتين ووصفها بانها كلام فظ من جاسوس قديم. وجدير بالذكر أن انتقادات بوتين تلك لم تكن الأولى من نوعها فقد أكد أواخر العام الماضى ضرورة حفز المواليد ومكافأة الأسرة المعيلة حتى تسترجع الأمة الروسية عمادها البشري والذي يمكنها من الوقوف أمام أطماع الذئب الأمريكي على حد وصفه الذي يأكل كل ما في طريقه دون أن يلتفت لأحد ،وهو التصريح الذى أعتبرته الدوائر السياسية والأمنية الأمريكية تهديدا كبيرا ، وينذر بوجود خطر كبير بعودة أجواء الحرب الباردة بالفعل .