لا بأس أحياناً من بعض التذكير بمعانٍ ومفاهيم، تجري ببداهة لا تلتقطها الحواس المغمورة بسيل اليومي الجارف، وفي مقدمها اللغة.وعلى الرغم من اندراج اللغة في خانة المصطلحات الحمّالة للأوجه والتأويلات الاجتهادية، فإنها في المحصلة تبقى تدور حول كونها وعاء لمحتوى حضاري وفكري، أكثر من كونها وسيلة اتصال وتخاطب بين بني البشر. ومن هنا تتعالى الأصوات مبشرة باكتساح لغة وسيادتها على اللغات الأخرى، أو نائحة وناعية مشارفتها على الذبول والموت، حين تتناهبها اللغات الأخرى، وتغدو عاجزة عن حمل أي محتوى حضاري، بعدما استنزفت جلّ ما تبقى من طاقاتها في توصيف الاستهلاكي الطاغي على حياتنا العالمثالثية. وكما يعلم الجميع، هناك تصنيفان للغتنا العربية التي لم تصل بعد إلى مرحلة الاحتضار أولهما يتعلق بلغة الأدب وتبعات الرومانسية الشرقية المكثفة في نسيم وهدوء الصحراء، أو قطرات ندى أشجار المرتفعات والسواحل، وهنا هي غنية جداً بمخرجاتها، من أيام المعلقات والمعاني المذهلة لأبيات المتنبي، لكنها بدت في تراجع مع خفوت مدخلاتها من اجتهادات تجريبية لغوية تعيد إنتاج وصياغة المشاعر بتوصيفات جاذبة، تنافس غيرها من اللغات الحاضرة. ثاني التصنيفات، وهو الأهم في هذا العصر، يتصل بلغة الإنتاج والتكنولوجيا. وهنا لنا وقفة لا بد منها، للبحث في ما وراء الحديث عن ضعف لغة أبنائنا العربية، وشغفهم العارم لإطلاق ألسنتهم بلغات أجنبية، أهمها الانجليزية بالطبع، التي باتت اللغة الرسمية للغالبية الساحقة جداً من مدارسنا الخاصة، فضلاً عن تفضيل الجنس العربي الناعم تذويب كلمات أجنبية في الجمل العربية، على سبيل التركيبة النفسية والاجتماعية المعقدة لجهة الرقي ومتطلبات المجتمع المخملي، الذي يقوم على «كل إفرنجي برنجي»، أي كل ما يأتي من الغرب يسر القلب. هذا التصنيف هو بالذات الذي يستأثر بالأهمية الكبرى، كونه بات ركيزة أساسية من حياتنا المعاصرة، لا ملاذ لألسنتنا من مخرجاته حتى في ساعات النوم، ولا سيما أن الكمبيوتر والهواتف الذكية وغيرها من وسائل الاتصال التكنولوجية تعتمد غالباً اللغة الانجليزية. هنا لا حرج أبداً في ما يجري ولا عجب، إن فهمنا السبب، فاللغة بما هي وعاء لمحتوى حضاري، وحضارة هذا العصر تقوم على التكنولوجيا، فهي وعاء للمحتوى التكنولوجي، وتالياً إن كان هذا المحتوى متقدماً ومتطوراً، يكون الوعاء على قدره. والجميع يدرك أن التكنولوجيا سلعة إنتاجية، بمعنى أن هناك قوى اقتصادية إنتاجية أطلقتها للتغلغل في مفاصل حياتنا وخلاياها، وهنا لا بد أن نعترف أن اللغة تابع لعملية الإنتاج، باتت تتأثر جدا بها، بعدما في البداية كانت عاملاً مساعداً في دوران عجلتها. وهنا نستذكر أكثر الأمور إيلاماً، وهو أنه من دون الصفر الذي اخترعه العرب، ما كانت ستقوم قائمة واحدة للعلوم وتطورها إلى فتوحات تكنولوجية تفوق الوصف.اختراع الصفر يعود إلى حقبة مشرقة في تاريخنا العربي، أنتجت وأنتجت، وبالتالي صدّرت اللغة ومصطلحاتها (كالكيمياء والجبر..) إلى مختلف أرجاء العالم الذي كان يحبو، لكنه سبقنا بأشواط. إذن، وببساطة، جف جذع الإنتاج لدينا، ومعه ذبلت أوراق لغتنا الجميلة وما عادت فواحة، سوى بعض براعم أدبية متناثرة. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية