لسنا بحاجة إلي التذكير بأهمية اللغة في حياة البشر, فهي وعاء الفكر تترجم ما في ضمائرنا من معان لتستحيل إلي أدوات تشكل الحياة, وتوجه أداء المجتمع وسلوك أفراده وجماعاته ومؤسساته. هي مرآة للتعبير عن الخصوصيات المختلفة للشعوب والمجتمعات, فاللغة كما يقال هي أداة التعبير والتجسيد الحضاري والثقافي للشعوب, وهي قوام النص وبيت الأفكار. *** وتدفعنا أهمية اللغة العربية في التعبير عن ذاتيتنا الثقافية, مقترنة بالأزمة التي يمر بها التعامل مع هذه اللغة إلي معرفة حكم الدستور حول هذه اللغة.. فالدستور هو الذي يحكم مسيرة حياتنا العامة ويحدد المقومات الأساسية لمجتمعنا.. والنظرة إلي اللغة العربية في الدستور نظرة تنقب عن الشرعية الدستورية التي تحكم استخدام لغتنا.. تلك الشرعية التي أقام أركانها الشعب المصري حين وضع دستوره لكي يحدد مسار حياته ويضع دعائمها. فالدستورية ليست مجالا مغلقا علي رجال القانون, بل هي الإطار الذي يحكم أساليب الحياة ومقوماتها في مؤسسات الدولة. وهي الضمان الذي يكفل الحقوق والحريات.. هي الوثيقة التي تعتز بها جماهير الشعب لأنها تعكس خلاصة تجاربه ومعاركه وترسم الطريق نحو مستقبله. وبادئ ذي بدء لابد أن أسجل حقيقة مهمة هي التفاعل بين لغة الدستور ومعانيه. فلا يجوز أن تعلو اللغة علي الفكر أو الفكر علي اللغة, وإنما يجب أن يكون الانسجام والتوازن بين الاثنين. ويتحدد هذا الانسجام في ضوء مضمون الدستور. فهو مجموعة من المبادئ والقواعد التي يلتزم بها المشرع والكافة. وتتحكم اللغة التي يكتب بها الدستور في تحديد مفاهيمه وقد استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر في مقام تفسير الدستور علي أن نصوص الدستور متكاملة مترابطة تعمل في إطار وحدة عضوية, وأن تفسير المبادئ والقواعد الدستورية يجب أن يتم في ضوء الغاية منها, باعتبار أن الدستور وثيقة تقدمية يجب دوما ألا ترتد مفاهيمها إلي حقبة ماضية وأن تمثل انطلاقا إلي تغيير لا يصد عن التطور. وتختلف لغة الدستور عن لغة التشريع, فالأول بحكم تربعه علي قمة النظام القانوني, يستخدم لغة تعلو في خطابها ومضمونها علي لغة التشريع فلا تلجأ إلي التفصيل حتي تفسح للتشريع سلطة الملاءمة وفقا للظروف والمقتضيات. هذا بخلاف لغة التشريع فإنها أكثر تحديدا لما تعبر عنه. كما أن لغة التشريع بدورها يجب أن تعلو في مضمونها علي اللائحة التنفيذية التي تهتم بالتفاصيل الدقيقة من أجل تنفيذ مضمون التشريع. كما تختلف لغة الدستور في تحديد مراميها عن لغة البرامج السياسية للحكومات أو الأحزاب التي تقوم علي العبارات الفضفاضة المعبرة عن السياسات أو الآمال. وقد أدت اللغة العربية دورها في التعبير بدقة عن غايات الدستور وتجسيد معانيه وقيمه أصدق تعبير. وتقوم المحكمة الدستورية العليا بتفسير النصوص الدستورية علي ضوء المقاصد الحقيقية التي ابتغاها الدستور, بحيث لا تتعارض أو تتهادم أو تتنافر فيما بينها. وقد طوعت المحكمة الدستورية العليا اللغة العربية التي صيغت بها نصوص الدستور حتي لا تكون هذه النصوص حلا نهائيا ودائما لواقع جاوز الزمن حقائقه. وقالت المحكمة إن قهر النصوص الدستورية لإخضاعها لفلسفة بذاتها, يعارض تطويعها لآفاق جديدة تريد الجماعة بلوغها. وتطبيقا لذلك قالت المحكمة الدستورية العليا في حكم لها سنة1997 بأن النصوص الدستورية لا يجوز تفسيرها باعتبارها حلا نهائيا ودائما لأوضاع اقتصادية جاوز الزمن حقائقها, فلا يكون تبنيها والإصرار عليها, ثم فرضها بآلة عمياء إلا حرثا في البحر, بل يتعين فهمها علي ضوء قيم أعلي غايتها تحرير الوطن والمواطن سياسا واقتصاديا. وهكذا استطاعت اللغة العربية في الدستور أن تحافظ علي ثباته كوثيقة تقدمية تستوعب مناحي الحياة وتطور آفاقها. ولقد عني الدستور المصري لسنة1971 بالتعبير عن مكانة اللغة في الدولة في المادة الثانية منه في قولها بأن اللغة العربية لغتها الرسمية. وقد أوضح الدستور بذلك مكانة اللغة العربية داخل مؤسسات نظام الحكم وكوسيلة اتصال رسمي بها. كما أوضح الدستور دعائم مكانة اللغة العربية داخل الدولة حين نص في مادته الثانية علي أن الإسلام دين الدولة, وهو ما يبرز العلاقة بين لغة الدولة وعقيدتها الدينية الرسمية بوصف أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم. وقد أوضح الدستور هذه الدعائم في المادة الثانية ذاتها من الدستور إذ نصت علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. ولما كانت مبادئ الشريعة الإسلامية تستند أساسا علي ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية لأصدق المرسلين, فإن اللغة العربية تتأكد مكانتها الدستورية من كونها اللغة التي يعبر عنها المصدر الرئيسي للتشريع الذي يصدر باسم الشعب. وجاء كل ذلك متفقا مع مبدأ اعتنقه الدستور وهو الانتماء القومي للشعب المصري حيث نصت الفقرة الثانية من المادة الأولي من الدستور علي أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية. فهذا النص يحمل في طياته تأكيدا علي أن اللغة العربية هي لغة الشعب المصري. ولما كان وجود الشعب يسبق وجود الدولة, فكان منطقيا أن يتحدد مركز اللغة العربية في الدستور مع تحديد الانتماء العربي للشعب المصري في مادته الأولي. ووفقا لما تقدم فإن مكانة اللغة العربية في الدستور تنبعث من كونها لغة القرآن الكريم الذي أتي بالإسلام دين الدولة الرسمي وكان مصدرا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تعد المصدر الرئيسي للتشريع في مصر. هذا بالإضافة إلي ما أكده الدستور بشأن الانتماء العربي للشعب المصري. ولا يقتصر الأمر علي القول بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة قاعدة دستورية, أنها تحتل مكانها بين القواعد الدستورية العادية, بل إنها تحتل مكانها بين نوع آخر من القواعد الدستورية يسمي بالقواعد فوق الدستورية, وهي القواعد الحاكمة لفلسفة الدستور وجوهره, بمعني القواعد التي تقيد السلطة التي تقوم بأي تعديل دستوري في المستقبل, فهي قواعد بطبيعتها عصية علي التعديل ولا تقبل التغيير إلا بواسطة السلطة التأسيسية الأصلية المنشئة للدستور عند وضعه ابتداء. وإعمالا للقيمة الدستورية للغة العربية كلغة رسمية للدولة نص قانون السلطة القضائية علي أن لغة المحاكم هي اللغة العربية( المادة19 من القانون رقم46 لسنة1972). ولم يكن من قبيل المصادفة أن يرتبط تراثنا القانوني والقضائي علي مدي العقود الماضية بلغتنا العربية الفصحي, فتكون اللغة العربية في المرافعات القضائية والأحكام من أرفع اللغات بلاغة ورصانة, وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يكون محامونا وقضاتنا ورجال القانون بيننا ذوو حاسة لغوية مميزة ومرهفة ومستوي راق من القدرة علي التعبير. وإذا كان الخطر الذي يواجه اللغة العربية الآن يهب من التآكل العام للغة الفصحي وغياب الإلمام بها وبمفرداتها وترادفاتها وتراكيبها ومعانيها ونحوها وصرفها, إلا أن هذا التآكل العام لا تحتمله المواد القانونية والقضائية. فالفصحي هي قوام الأحكام وأساس صياغة الفكر القانوني عامة. وفي مقام الالتزام بما جاء في الدستور من أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة, نص القانون في شأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية علي أن يجري التحكيم باللغة العربية ما لم يتفق الطرفان أو تحدد هيئة التحكيم لغة أو لغات أخري( المادة29 من القانون رقم27 لسنة1994). ونص قانون حماية الملكية الفكرية علي مراعاة استعمال اللغة العربية( المادة64 من القانون رقم82 لسنة2002). ونص قانون الطفل علي التزام مديري دور السينما وغيرها من الأماكن العامة المماثلة علي أن يعلنوا باللغة العربية في مكان العرض وفي جميع وسائل الدعاية الخاصة ما يفيد حظر مشاهدة العرض علي الأطفال( المادة91). ونص قانون العمل رقم12 لسنة2003 علي التزام صاحب العمل بتحرير عقد العمل كتابة باللغة العربية( المادة2). ونص قانون حماية المستهلك علي التزام المنتج أو المستورد بحسب الأحوال أن يضع باللغة العربية علي السلع البيانات التي توجبها المواصفات القياسية المصرية أو أي قانون آخر( اللائحة التنفيذية لهذا القانون المادة3). ومن البدهي أن تكون اللغة العربية هي لغة التعليم في مؤسسات الدولة التعليمية. ويسري ذلك بداهة علي مدارسنا في التعليم الأساسي والثانوي. ولا يحول دون ذلك قيام مدارس خاصة بمهمة التعليم, لأن ما تقدمه هذه المدارس من تعليم يكون تحت إشراف الدولة( المادة18 من الدستور). أما المدارس الأجنبية في بلادنا فلا يجوز لها أن تعطي التعليم للمصريين بغير العناية بمادة اللغة العربية. وجاء القانون رقم112 لسنة2008 بتعديل بعض أحكام القانون رقم14 لسنة1982 بإصدار قانون إعادة تنظيم مجمع اللغة العربية فأكد التزام دور التعليم والجهات المشرفة علي الخدمات الثقافية والوزارات والهيئات العامة ووحدات الإدارة المحلية وغيرها من الجهات الخاضغة لإشراف الجهات المشار إليها بتنفيذ ما يصدره مجمع اللغة العربية من قرارات لخدمة سلامة اللغة العربية وتيسير تعميقها وانتشارها. وقد أكد هذا القانون حقيقتين( أولاهما) التزام دور التعليم باستخدام اللغة العربية,( ثانيتهما) التزام دور التعليم بأن يكون استخدام اللغة العربية وفقا للمستوي اللغوي الذي حدده مجمع اللغة العربية. لقد ذادت مصر عن لغتها القومية قديما وحديثا عندما أكد الدستور المصري في مادته الأولي أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية حافظ علي الهوية والخصوصية الثقافية العربية. وقد صمد الدستور المصري بذلك أمام جميع محاولات الهيمنة والتغريب الثقافي. ولم تعد تجدي أمام القيمة الدستورية للاستخدام الرسمي للغة العربية أمام نزعة التكتل الإقليمي تحت تأثير العولمة مهما كانت دوافعه. وتميزت مصر بانتمائها العربي بالوحدة اللغوية. وختاما أود أن أشير إلي أنه ليس بالدستور والقانون وحدهما يتم الحفاظ علي اللغة العربية وضمان نهضتها وسموها وتفوقها كما كانت في عصور ازدهارها.. إنما تحيا اللغة وتزدهر فيما أري بإبداع الجماعة الناطقة بها.. أعني بذلك الإبداع بكل أنواعه وفنونه وفي شتي مناحي العلوم والتكنولوجيا. وغني عن القول, أنه لا يمكن لنا تحقيق هذه المهام البحثية دون الاستعانة بتكنولوجيا المعلومات, فهي أملنا الوحيد في تعويض تخلفنا في مجال البحث اللغوي والإبداعي. إذا ما عرفنا أن اللغة العربية في الدستور هي لغة القرآن الكريم, بات واضحا أن الدستور قد أعطي للغة البلاغة والإعجاز والبيان قيمة دستورية تخاطبنا جميعا. إن لغتنا العربية هي لغة الدستور, ومكانة لغتنا في الدستور تتصل بانتمائنا الثقافي والعربي, وانتماء الدولة للإسلام, وانتماء التشريع لمبادئ الشريعة الإسلامية.