هل كان الموسيقار الكبير «محمد عبدالوهاب» يؤمن فقط بأن النجاح يساوي «عبدالوهاب» وما دون ذلك باطل.. كثير من المواقف التي عاشها عبدالوهاب تؤكد ذلك خاصة في علاقته الشائكة مع «بليغ حمدي»؟! في حوار أجريته مع الشقيق الكبير لبليغ حمدي علي صفحات جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية قال لي «د. مرسي سعد الدين» إن «عبدالوهاب» كان في البداية شديد الحماس لموهبة «بليغ» ولكن بعد ذلك قال إن «بليغ» «رخص الغناء» يقصد أنه جعله بلا ثمن ولا قيمة جمالية، الحقيقة أن الموسيقار «محمد عبدالوهاب» كانت لديه آراء عديدة تتناول تحديداً «بليغ حمدي» فهو مثلاً كان يري أن «بليغ حمدي» هو أكثر موسيقار يأتي إليه الإلهام الموسيقي ولكنه - أي بليغ - لا يجتهد كثيراً في التعايش مع الجملة الموسيقية التي تمنحها له السماء وكان عليه كما يري «عبدالوهاب» أن يتعايش مع هذه الجملة الموسيقية ويعيد التفكير فيها أكثر من مرة ثم يقدمها بعد ذلك للجمهور بعد أن تختمر إبداعياً في أعماقه.. لا شك أن «عبدالوهاب» كان يهتم دائماً بمتابعة الأجيال التالية له فهو يعلم أنه لكي يستمر علي القمة فإن عليه أن يهضم مفردات الجيل الجديد ومن هنا مثلاً من الممكن أن تجد تفسيراً لكلمة قالها لي الموسيقار الكبير «كمال الطويل» في تحليله لموسيقي «محمد عبدالوهاب» قال إنه مثل النشافة يأخذ من كل ما يقدمه العصر وكل ملحني الزمن الذي عايشه تجد بأسلوب غير مباشر أن «عبدالوهاب» قد تأثر بهم.. «عبدالوهاب» نفسه كان يقول أنا مثل النحل آخذ رحيق الزهور وأعطي عسلاً.. لم يكن «عبدالوهاب» هو ابن الزمن الذي سبقه فقط لكنه ابن الزمن الذي يعيشه يتابع تلاميذه بنفس القدر من الاهتمام الذي كان يتابع به أيضاً أساتذته وعلي رأسهم «سيد درويش» ثم تمرد علي نفسه حتي الذي قدمه هو في الثلاثينيات وكان يطلق عليه «عبدالوهاب» القديم، لأنه منذ منتصف الأربعينيات قدم لنا «عبدالوهاب» آخر جديد لا علاقة له بزمن «عبدالوهاب» القديم!! كان «عبدالوهاب» يري أن الغزارة الموسيقية لبليغ حمدي سلاح ذو حدين وكان معروف أن «بليغ» هو أكثر ملحن عرفته مصر والعالم العربي لديه كل هذه الخصوبة في الإبداع والأرقام في جمعية المؤلفين والملحنين تؤكد ذلك.. فهو يحظي دائماً بالمرتبة الأولي في تحقيق أكبر أداء علني وعلي مدي تجاوز 15 عاماً فإن ترتيب «بليغ حمدي» يأتي في المقدمة.. ما الذي يعنيه هذا سوي أن موسيقي «بليغ» لا تزال تنبض بالحياة.. «عبدالوهاب» يأتي في المركز الثاني ويجب ملاحظة أن ما قدمه «بليغ حمدي» يتجاوز في العدد أربعة أضعاف - علي أقل تقدير - ما قدمه «عبدالوهاب» رغم أن «عبدالوهاب» عاش مبدعاً أكثر من 70 عاماً لم يتجاوز ما لحنه 600 لحن، بينما «بليغ» عاش مبدعاً 40 عاماً ويصل إنتاجه إلي أكثر من ألفي أغنية!! «عبدالوهاب» شكل بالنسبة لكل الأجيال التي جاءت بعده علاقة تحمل تقديرا وفي الوقت نفسه لا يخلو من قدر لا ينكر من التوجس.. مثلاً كان «محمد الموجي» و«كمال الطويل» و«عبدالحليم حافظ» قد تعاهدوا بمجرد بداية نجاحهم مع مطلع الخمسينيات ألا يجعلوا «عبدالوهاب» يفرق بينهم إلا أن «عبدالوهاب» منذ الخمسينيات استطاع أن يخترق هذا الحصار وأن ينفذ إليهم وكان «عبدالوهاب» من الذكاء بأن اقتنص «عبدالحليم» من بين «الموجي» و«الطويل».. صحيح أن «عبدالحليم» كان يحرص في البدايات علي أن يغني من تلحين رفيقي الطريق ولكن «عبدالوهاب» بذكاء تمكن من أن يرتبط مع «عبدالحليم» بمشروع فني اقتصادي وهو شركة «صوت الفن» لم تكن «صوت الفن» في البداية سوي شركة تضم «محمد عبدالوهاب» ومدير التصوير «وحيد فريد» والمخرج «هنري بركات» ولكن «عبدالوهاب» وافق علي أن يدخل «عبدالحليم» كشريك ليضمن بأسلوب غير مباشر احتكار أفلام «عبدالحليم» لحساب الشركة لأنه صاحب مصلحة مادية، كما أن «عبدالحليم» سوف يضمن أن كل ألحان «عبدالوهاب» والتي تحقق رواجاً جماهيرياً سوف تصبح جزءًا من أرباح الشركة وهو بالتالي صاحب مصلحة فيها.. هكذا كانت الخطة التي رسمها «عبدالوهاب» ووافق عليها «عبدالحليم» لأنه وجد فيها تحقيقاً لمصالحه الأدبية والمادية كل منهما بأسلوب غير مباشر يقتسم نجاحه مع الآخر!! هل كان «عبدالوهاب» يشعر بقدر من الغيرة من الأجيال التي جاءت بعده؟! نعم كان يتابع بشغف ما يقدمونه إلي درجة أنه استمع يوماً إلي لحن «قولولو قولولو قولولو الحقيقة» بصوت «فايزة أحمد» وكلمات «مرسي جميل عزيز» وهي الكلمات التي لحنها بعد ذلك «كمال الطويل» لعبدالحليم في فيلم «شارع الحب».. أعجب «عبدالوهاب» بلحن أغنية «فايزة» وحفظه واستدعي الشاعر «علي مهدي» الذي كتب له علي نفس الموسيقي «بريئة بريئة أحلفلك بريئة».. ولم ينس «بليغ» أبداً الألم النفسي الذي سببه له «عبدالوهاب» عندما وجد أن لحنه قد سرق منه ونسب إلي الملحن الكبير مثلما لم ينس أنه علي المستوي الشخصي حرمه من الزواج بابنته «اش اش» بعد فترة خطوبة قصيرة.. ورغم ذلك فإن الذي كان يعني «عبدالوهاب» أكثر ليس الموقف الشخصي ولكن الإبداع فهو يقول فني ثم فني ثم عائلتي ولهذا كان حريصاً علي أن يظل محافظاً علي العصرية، كانت الأجيال الجديدة بمثابة حافز يمنح أفكاره الفنية نبضاً جديداً فهو يريد أن يعتلي بمفرده المقدمة لا يسبقه الزمن مهما استخدم من أسلحة بعضها غير مشروع.. نعم كانت تفلت من «عبدالوهاب» أحياناً بعض الكلمات التي تغضب عددًا من الملحنين لكنه مثلاً أثني علي «محمود الشريف» و«حلمي بكر» كان يقول إنهما نموذج للملحن المبدع كما ينبغي أن يكون.. لا شك أن «الموجي» مثلاً كان يغضب أحياناً من «عبدالوهاب» لكنه في نهاية الأمر كان يراه هو أستاذه.. «الطويل» كان يصل في علاقته بعبدالوهاب إلي حدود الخصومة الشخصية وهي بالفعل خصومة استمرت سنوات لكنه ظل علي حبه وإيمانه بإبداع «عبدالوهاب» حتي بعد رحيله.. «بليغ حمدي» عندما تعرض لمحنة «سميرة مليان» المغربية الحسناء التي انتحرت عندما ألقت بنفسها عارية من منزله في الدور الثالث بحي المهندسين واجه «بليغ» أقسي أنواع التهم وهي تسهيل الدعارة وحكم عليه بالسجن لمدة عام.. سافر وقتها «بليغ» إلي فرنسا وذلك قبل أن تسقط محكمة النقض الحكم ويحصل علي براءة ولكن في تلك الأثناء نهاية الثمانينيات كان اسم «عبدالوهاب» كثيراً ما يتردد في الكواليس باعتبار أنه هو الذي لعب الدور الأكبر في إدانة «بليغ حمدي» لإبعاده عن منافسته ولم تكن لهذه الشائعات أي نصيب من الصحة إلا أن الناس والوسط الفني كان مهيئاً للتصديق!! لو سألتني عن رأيي الشخصي أقول لك «عبدالوهاب» كان يشعر بالغيرة من كل جديد موهوب يتابعه يتأمله يهضمه وكان «بليغ حمدي» علي رأس من يتابعهم ويهضمهم. «عبدالوهاب» له تعبير كثيراً ما كان يردده في جلساته وهو «لا شيء يقف أمام الأجمل» وهو لهذا قد يجد الأجمل لديه فيقدمه أو لدي تلاميذه فيأخذه منهم!! رغم ذلك أحبه علي طريقته علشان الشوك إللي في الورد بحب الورد.