ما أكثر «التيمات» الدرامية التى نراها فى الأعمال الفنية وعبر التاريخ؟ لو ألقيت نظرة عين الطائر على الرواية والمسرح والشعر والفن التشكيلى والسينما محليا وعالميا، ستكتشف أن الحب شكل القسط الوافر منها، إلا أن الحب مرتبط دائما بمرحلة الشباب حيث تتأجج العواطف ولا يمكن كبح جماحها فتتخطى الحواجز الاجتماعية والاقتصادية والعرقية. وهكذا خُلدت فى التاريخ الفنى الآلاف منها، ولكن مهرجان دبى فى دورته التاسعة اقتنص من مهرجان «كان» هذا الفيلم الحائز فى دورته الأخيرة التى حملت رقم 65 على السعفة الذهبية، ليثبت أن الحب مثل الصاروخ عابر المحيطات، هو أيضا عابر لحواجز السنين. الفيلم افتتح به مساء أول من أمس قسم سينما العالم الذى يعرض أهم الأفلام المنتجة فى العام، ومن بينها بالطبع هذا الفيلم. فى فيلم «حب» كان عمر الحبيبين قد تجاوز الثمانين، وتستطيع أن تعتبر هذا النوع من الحب تنويعة عاطفية على طريقة ضرب أفضى إلى موت، فهو حب أفضى إلى قتل.
وقبل أن ننتقل إلى تفاصيل الفيلم، أذكر أنه فى مهرجان «كان» الأخير وهى من المرات القليلة التى توافقت فيها آراء لجنة التحكيم التى رأسها المخرج الإيطالى نانى موروتى مع آراء أغلب النقاد فى المجلات الفنية التى تصاحب المهرجان بالرصد والتحليل، ومنح درجات للأفلام المشاركة، حيث حظى فيلم «حب» للمخرج النمساوى الشهير مشيل هانكا بجائزة أفضل فيلم من خلال تقييم النقاد وأيضا لجنة التحكيم.
الحب لا يعترف بالسنين، وهكذا عشنا مع بطلى الفيلم اللذين تجاوزا الثمانين وهما فى حالة امتزاج عاطفى السنين لم تفسد هذا الإحساس بل زادته وعمقته. الزوجان أستاذان للموسيقى وابنتهما الوحيدة التى نراها على هامش الأحداث تمارس العزف الموسيقى، تبدو كأنها محددات للكادر الذى نُطل من خلاله على الفيلم.
الفيلم يبدأ برجال الشرطة يقتحمون منزلا وهم يضعون كمامات على وجوههم بسبب رائحة تنبعث من المكان، دلالة على مضى بضعة أيام على وقوع الجريمة، ونكتشف جثة امرأة عجوز ملقاة على السرير وحولها الزهور.
اللقطة الثانية فى المسرح تبدو «كفلاش باك» عودة للماضى، حيث كان الزوجان الحبيبان يحضران حفلا موسيقيا، ونعود بعد ذلك إلى الموقع الرئيسى للأحداث والكاميرا لا تغادر البيت، نظل داخل هذا المكان الضيق والكلاسيكى فى ملامحه نتابع تلك العلاقة بين الحبيبين.. السيناريو كتبه المخرج ميشيل هانكا ليس على الطريقة البوليسية من أجل التشويق وزرع تساؤل عن من الجانى، ولكن تلك الجريمة تعبر بنا سريعا بسبب رهافة إحساس المخرج وقدرته على بناء السيناريو، لم نتذكرها إلا مع ارتكاب البطل لحادثة القتل لتستحوذ علينا الحكاية العاطفية بكل تفاصيلها وتداعياتها!!
الفيلم لا ينتهى هنا، ولكن نعيش الحلم مع الزوج عندما نرى زوجته فى المطبخ، وهما فى طريقهما لمغادرة المنزل، وكأن المخرج يريد أن يحقق للمتفرج نهاية سعيدة لم تحدث على الشريط السينمائى. وهو يعيدنا مجددا إلى تلك اللقطة التى شاهدناهما معا فى درا الأوبرا مع بداية أحداث الفيلم، فلقد تألم الزوج وهو يرى زوجته الحبيبة غير قادرة على الحركة وتريد التخلص من حياتها، وهو لا يستطيع أن يعيش دونها، أصابتها سكتة دماغية أولى فأعارها ذراعيه وقدميه، وجاءت الثانية وكالعادة فى مثل هذه الأحوال أشد ضراوة وأفقدتها تواصلها بالحياة فخنقها وتخلص هو أيضا من حياته. لسنا هنا فى مجال تقييم دينى وأخلاقى وقانونى لهذا الفعل ولكنه يقدم بمنطقه الدرامى.
الكاميرا لم تغادر المنزل إلا فى مشاهد نادرة واحدة فى المسرح وأخرى أمام باب الشقة، ولكن يظل المنزل هو البطل المسيطر على الإحساس العام.. ولم يجد المخرج سوى أن يقترب بالكاميرا لنرى من خلال نظرته التأملية لوحات تشكيلية على الجدران تمنحنا قدرا من الرحابة.
شاهدت على مسرح قاعة لوميير فى مدينة «كان» قبل ستة أشهر، فى أثناء توزيع الجوائز، كيف أن الرؤية الدرامية للمخرج وحالة الفيلم البصرية التى تحققت ما كان من الممكن أن تتوفر لولا أن هناك اثنين من كبار نجوم فن الأداء، وهما بطلا الفيلم جان لويس ترانتيجو وإيمانويلا ريفا قد امتزجا إبداعيا أمام الكاميرا، ولقد استحقا ثناء المخرج ميشيل هانكا وقبل ذلك ثناء رئيس لجنة التحكيم المخرج الإيطالى الشهير نانى موروتى.
وتجددت قبل ساعات فى مهرجان دبى حالة من الشجن النبيل فى سينما مسرح المدينة فى أثناء عرض الفيلم لنعيش «حب» حتى لو أفضى إلى قتل فهو.. عابر لحواجز الزمن!!