لا أحد عاش أكثر من أيامه، ولكن كلنا مهما امتد بنا العمر نشعر أننا لم نعش الحياة التى تمنيناها.. لدينا تجارب لم تكتمل، وأحلام أجهضها قانون الواقع، وأفكار لم نمتلك الجرأة لكى نحيلها إلى واقع نمسكه بأيدينا. عندما يكتب القدر كلمة النهاية نبدأ فى حساب السنين والأيام والثوانى التى عشناها ونسأل عما لم نحققه فى ذلك الزمن القصير مهما طال.
لم يعرف أحد ماذا بعد نهاية الحياة، عندما تنتهى صفحات الكتاب نعرف التحرر من الجسد الذى يماثل التحرر من قانون الجاذبية، حيث لا قانون يُفرض عليك، وفى تلك المساحة الزمنية قبل أو بعد الرحيل بلحظات تجرى أحداث الفيلم الفرنسى «آلة مقدسة».
بطل الفيلم انتهى رصيده من الحياة أو فى طريقه إلى الانتهاء، ولهذا قرر فى أقل من يوم من مطلع الفجر حتى انتهاء الليل أن يحقق كل ما كان مكبوتا أو ممنوعا، مستعينا بحقيبة المكياج التى تحيله فى كل مرة إلى شخص آخر. مجموعة من البشر يتقمصهم تباعًا، نراه رب أسرة يحنو على ابنته ونراه فى لحظة قاتلا، وفى أخرى وحشًا ومصاص دماء، وفى ثالثة زير نساء.. كل شىء قدمه فى تلك الساعات القليلة وكأنها منحة إلهية حصل عليها تتحرك فى الزمن الحالى والقادم ولا تترك أمامه فرصة لالتقاط الأنفاس!!
رؤية «فانتازيا» خيالية يقدمها المخرج الفرنسى ليوس كاراكس، فى فيلمه وهو يتنقل فى باريس من حى إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى وكأنه يلعب مع الجمهور على المكشوف. فى كل مرة يدخل العربة التى تحولت إلى «آلة مقدسة»، ويبدأ فى وضع المكياج، كما يتخيله للدور الجديد الذى يستعد أن يعيشه.
تبدأ الأحداث فى شقة، تتصل غرفة النوم بدار أوبرا.. اختار المخرج بطل الفيلم دانيس لافانت، وهو يرتدى بيجامة ويخرج على الناس وكأنه يودع الحياة فى اللحظات الأولى للفيلم، وكأنه يمهد الجمهور إلى تلك الحالة من التماهى مع الأحداث، حيث إننا بصدد عرض فنى جديد متعدد الأوجه والأفكار، ويصل المخرج، وهو أيضا كاتب السيناريو، إلى أن يقدم لنا العلاقة مع قائدة العربة التى تمثل القدر التى تنتقل به من حى إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى، وتنتهى الأحداث وحوار دائر بين العربات فى الجراج التى تكمل هى أيضا أصول اللعبة!! الانتقال فى الصورة من حالات درامية ونفسية وتشكيلية متغيرة تكشف قدرة المخرج على التغيير والتعبير من موقف إلى آخر، حيث نجد أنفسنا كمشاهدين نلهث أيضا وراءه. وكان المخرج الفرنسى بارعا فى تحقيق تلك الانتقالات الفنية والدرامية والنفسية، كما أن البطل دانيس لافانت كان قادرا على أن يتقمص الشخصية بحالة مقننة من المبالغة، تتواءم مع روح الكوميديا والفانتازيا التى تشكل قانون وروح هذا الفيلم.
عند نهاية عرض الفيلم استمعت إلى مزيج من حالة الإعجاب والاستهجان، وعندما تابعت تقديرات النقاد فى عدد من المجلات التى تصاحب المهرجان مثل «سكرين» و«فيلم فرانسيس» استوقفنى هذا التناقض الحاد بين من يمنحه الدرجة النهائية أربع نجوم ويرشحه للسعفة، ومن يعتبره هو الرداءة بعينها ويمنحه تقديرا رديئا!
إنها نوعيات قليلة جدا من الأفلام التى تلمح فيها هذا التباين بين من يضعها على القمة ومن يخسف بها إلى سابع أرض.
وتلك هى المشكلة التى عانى منها هذا الفيلم، التى من الممكن أن تكتشف من خلالها لماذا كان نصيب هذا الفيلم قدرا متعادلا من التصفيق والاستهجان!!
تعلن مساء اليوم نتائج هذه الدورة رقم 65 التى أعتبرها الأسوأ على الأقل خلال 21 دورة تابعتها من تاريخ هذا المهرجان، حيث إننا لم نشاهد سحر السينما إلا فى القليل من الأفلام، وأنتظر أن تتردد اليوم عند إعلان الجوائز أسماء تلك الأفلام هى كالتالى «خلف التلال» الرومانى للمخرج كريستيان مونجيو، والفيلم الفرنسى الألمانى النمساوى المشترك «حب» للمخرج ميشيل هانكى، مرشحان لسعفة أفضل فيلم، وبطلا فيلم «حب» مرشحان لجائزتى التمثيل، وهما جين لويس ترينتجانت، وإيمانويلا ريفا، وبطل فيلم «الصيد» الدنماركى مادس ميكليسين مرشح لجائزة أفضل ممثل، ولا أستبعد أيضا فيلم «آلة مقدسة» ولا بطل الفيلم دانيس لافانت من المنافسة.. ساعات قليلة وتعلن النتائج.