ببساطة وإبداع وأَلق يقدم المخرج المغربى محمد العسيلى فيلمه الثانى «أياد خشنة». كنت قد شاهدت فيلمه الأول «الطيور لا تحلق فى الدارالبيضاء» فى مهرجان «كان» قبل نحو 7 سنوات وذلك فى قسم أسبوع النقاد الذى يضع دائما الضوء على التجارب الأولى المتميزة فى العالم. كان الفيلم ينتقد حال الإنسان المغربى بقدر جانح من الخيال يصل إلى آفاق الفانتازيا. فى فيلمه الثانى الذى تدور أحداثه أيضا فى نفس المدينة (الدارالبيضاء) اقترب المخرج والكاتب محمد العسيلى من الواقع أكثر ولكنه ظل محتفظا بهذا الهامش المقنن من حدود الخيال الذى يسمح بالابتعاد عن الواقع بقدر لا ينتقل معه المشاهد إلى الضفة الأخرى فى قراءة العمل الفنى، حيث نظل نقف مع المخرج على أرض الواقع. إنه الفهلوى بالمفهوم المصرى للكلمة وأيضا بالجانب الإيجابى منها فهو مع البسطاء الباحثين عن حياة أفضل سواء تحققت هذه الحياة فى الوطن أو بالهجرة خارج الحدود. الأمر يحتاج إلى تواطؤ من الجميع وإلى مساحة من الخروج على القانون وأيضا -وهذا هو الأهم دراميا- إلى تسامح من الجمهور مع هؤلاء البسطاء فى اقتناصهم لحظات السعادة القليلة فى الحياة!! إنه الشاب الحلاق الذى يذهب إلى بيوت الأثرياء مدركا نقاط ضعفهم ومعه عربته الصغيرة ويصطحب معه مساعديْه: عازف القانون الذى يتواصل معه وهو يمسك بالمقص، وآخر متخصص فى تقليم الأظافر، بينما هو يقود العربة ويقودهم فى تلك الرحلات اليومية، ونرى من بينهم الوزير المُقْعَد الذى تسيطر على مواقفه وأفكاره زوجته المتسلطة، ونرى مجموعة أيضا من البسطاء الذين يدفعون الدراهم القليلة التى بحوزتهم لهذا الشاب الذى لم يعد شابا بعد أن تجاوز الأربعين إلا أنه صار هو المنقذ لهم. نرى تنويعات على هؤلاء المهمشين ومحاولتهم المستحيلة للتحايل على الحياة الشحيحة عليهم ولكنهم لا يستسلمون، حتى أمه الضريرة هى نموذج لمواجهة العجز المفروض علينا والذى نولد به ولهذا قدمها السيناريو فى المشاهد الأولى وهى تعد الطعام لابنها بمفردها ثم وهى تنسج على النول وتختار الألوان بمساعدة جارتها فهى أيضا لا تعترف بالانكسار والعجز. بطلة الفيلم «هدى ريحانى» تعيش الحب مع خطيبها وتريد أن تلتحق به فى إسبانيا لتعمل فى جنى المحصول، يساعدها بطل الفيلم «محمد بساطى» فى الحصول على الأوراق اللازمة للهجرة وتبقى مشكلة أن تصبح يدها خشنة دلالة على أن لديها باعا وخبرة فى العمل ولهذا تضع على يديها الطين الخشن وتنتظر بضعة أيام وهى مربوطة حتى تثبت جدارتها بالسفر ولكن فى مفارقة مقصودة تفضحها قدماها الناعمتان. تفصيلة أخرى يضعها المخرج حيث إن البطلة كانت قد ذهبت للاختبار وهى تضع حجابا على رأسها وبعد إخفاقها وافتضاح أمرها تخلع الحجاب أمام الجميع.. كان حجابها لنفاق لجنة التحكيم! فى هذا الفيلم الأثرياء ليسوا دائما هم الأشرار ولهذا نرى الوزير المُقْعَد فى اللقطة الأخيرة يرفع يده ملوِّحا وسعيدا للحلاق بعد أن تزوج من جارته صاحبة الحلم المجهض بعد أن تخلصت هى أيضا من خطيبها الذى سبقها إلى إسبانيا. بطلة الفيلم مدرسة الابتدائى التى نراها فى مشهد سابق فى أثناء الفصل الدراسى وهى تتلقى مكالمة من خطيبها تقرر فيها التخلص من تلك الخطبة وتنهار ولكن تتجدد آمالها مع الحلاق الذى لا يعرف القراءة والكتابة، إلا أن كل الشخصيات تقاوم حتى تتغلب على الضعف المفروض عليها، وهكذا وهو فى الأربعين من عمره يذهب إلى المدرسة للتعلم ويطلب من جارته التى يحبها فى صمت أن تكتب له رسالة عن معاناته ليرسلها إلى من يحبها، وبعد أن تكتب الخطاب يكتب هو اسم المُرسَل إليه تكتشف أنها هى التى يحبها. ربما كانت هذه المفارقة الدرامية من كثرة تناولها فى الأعمال الفنية هى الأضعف إلا أنه يتبقى أننا بصدد فيلم يملك طموحا إبداعيا ولمحات خاصة بدأت من اللقطة الأولى التى ترى فيها بطل الفيلم «محمد بساطى» يطل على المدينة من فوق السطح من خلال مائدة تتحرك وكأنها تحلق فوقها رغم أنها ثابتة على الأرض. إن مفتاح الفيلم الخيال المقنن بتلك الرابطة العضوية بالواقع.. الفيلم يناصر البسطاء والضعفاء ويتعاطف حتى مع خروجهم عن القانون وينقل هذا الانحياز إلينا!