يقف صناع فيلم «18 يوم» عند حدود حسن النوايا فى تسجيل لحظة هى الأهم فى تاريخ مصر المعاصر، وهى اللحظة التى ولدت معها ثورة 25 يناير، وكيف كان المخاض عسيرا وملهما ومحفزا لجيل ولأمة بكامل أطيافها. وأنا أقول حسن النوايا لأن العمل السينمائى الذى تكون من عشرة أفلام قصيرة كمحاولة لقراءة الحدث من خلال زوايا ووجهات نظر مجموعة من المخرجين بدا وكأن ينقصه شىء رغم صوره المؤثرة.
ربما يكون مخرج مسئول أو منسق أو صاحب رؤية عامة للأعمال كشكل من حيث ترتيب الأفكار وخطها الدرامى والمشورة لمونتاج بعض المشاهد التى نقل تكرارها من عمل لآخر شعورا ببعض الملل لدى المشاهد المتشبع بالتوك شو، وخاصة تلك اللقطات التى سجلت لحظة الإعلان عن تخلى الرئيس مبارك عن الحكم والتى يظهر فيها عمر سليمان على شاشة التليفزيون، وكذلك هتافات واحدة داخل ميدان التحرير قبل وبعد 25 يناير مثل (ارحل) (هو يمشى مش هنمشى) وأيضا تكرار بعض الجمل والتساؤلات التى صاحبها الدهشة عما يحدث بميدان التحرير والتى جاءت على ألسنة بعض أبطال العمل كانت مباشرة، وربما جاء هذا الشعور بعد ما صالت وجالت برامج التوك فى نفس المنطقة خلال تلك الفترة. لكن بدون شك يجىء العمل السينمائى «18 يوم» ليكون شاهدا تاريخيا حيا على ذلك الحدث العظيم.. وحملت بعض أفلامه العشر رؤى وأفكارا وصورا وحواديت سينمائية تسللت بنعومة لموقع ذروة الحدث، وتحرك المشاعر والعقول بينما لم يضف البعض الآخر شىء وهنا أقصد كخط درامى واع.. فقط خرجت كونها بعض المشاهد التسجيلية التى لم تمتزج فيها روح الدراما لأبطالها المصنوعين مع أبطال الحدث.
والفيلم الذى عرضته شاشة مهرجان أبوظبى السينمائى فى إطار العروض العالمية كونه عرض فى ميهرجان كان، استقبلته الجماهير بترحاب وصفقت لمن حضر من صناعة المخرجين يسرى نصرالله وكاملة أبوذكرى. شريف بندارى، مروان حامد، فادى فهيم، والنجوم يسرا، وهند صبرى، باسم سمرة، والمنتج محمد حفظى، بينما هناك آخرون لم يحضروا المشهد وهم أحمد حلمى، منى زكى، عمرو وكاد، آسر ياسين، خالد أبوالنجا، وأياد نصار، أحمد الفيشاوى ومن المخرجين الآخرين محمد على، خالد مرعى، أحمد عبدالله، أحمد علاء، مريم أبوعوف.
يبدأ العمل الذى يبقى كوثيقة لمن يقولون لنا أننا لم نحكم سوى بالكرباج حسب شهادة نصر الله بالفيلم الأول تحت عنوان «احتباس»، والذى اختار الرؤية الرمزية من عنبر مستشفى الأمراض العقلية حيث تدور الأحداث والتى تجمع فئات مختلفة من المجتمع المصرى وتكشف تناقضاته الإنسانية والسياسية، فهنا عمر درويش خريج أصول الدين الذى اتهم بالإرهاب والتطرف والجنون لأنه يصلى بالمسجد.. وآخر ينسى اسمه لأن الأمن يناديه كل يوم باسم جديد وتهمة جديدة له، وآخر قبض عليه وألقى بالمستشفى لعدم وجود بطاقة معه، وهناك صحفى ومذيع باحدى القنوات الخارجية يكشف كيف استدعته المباحث لكى لا يتحدث فى أشياء بعينها لكنه تحدث، وتوفيق أبوخضره رجل أعمال، وعبدالسلام مدرس التاريخ الذى اتهم بتحريض التلاميذ على السياسة، وفلاح، وعقيد شرطة يدعى أحمد الباسوسى.. كل هؤلاء يندمجون فى عالم واحد من الظلم والقهر بمستشفى المجانين ويسمعون عبر جهاز التليفزيون وشباك العنبر ما يدور من احتجاجات منذ يوم 25 يناير وحتى 11 فبراير.. حيث يسمعون «الشعب يريد إسقاط النظام» لقطع المستشفى الارسال التليفزيونى عبر صوت إذاعة داخلية (نظرا للتأثير السلبى لما يعرض على الشاشة قررت إدارة المستشفى قطع الإرسال، وفى يوم 10 فبراير يعود الإرسال مع صوت المذيع (الرئيس سيلقى كلمة بعد قليل) لكن مع تأخر الكلمة نرى الجميع ينام وصوت شخير ثم تضج القاعة بالضحك عندما يظهر الرئيس ليقول «عشت من أجل هذا الوطن تحملت المسئوية والواجب» ثم نرى فى 11 فبراير بيان عمر سليمان بتخلى الرئيس عن منصب رئيس الجمهورية (تصفيق) مع كلمة أحد المتهمين بالجنون (احنا غنا أو ايه لحد ما طلع، ثم نسمع المذيع الداخلى للمستشفى «تهنئ إدارة المستشفى النزلاء بنجاح ثورة وفتح الشبابيك». وفى النهاية تدور محاكمة بين الضابط وباقى النزلاء حول الموقف من الثورة فى صورة ساخرة رصدها بروح شريف عرفة.
وفى الفيلم القصير رقم 2 خلقة ربنا نرى بنوعة درامية حكاية شابة بائعة متجولة الميدان والتى لا تحكم بأكثر من تغيير لون شعرها، إلا أن تجد نفسها بالصدفة وسط حدث يفوق وعيها، وتتعرض دون احتجاج منها لضربات قوى الأمن، لكن وجدانها يتحرك تلقائيا لتجد نفسها مشاركة فى الحدث نفسه، وتتساءل بعد إصابتها يا ترى ربنا ها يحاسبنى لانى اعترضت على خلقته؟! وسط هتافات «باطل» وقنابل مسيلة للدموع ومشاهد مؤثرة لدهس سيارات الشرطة للمتظاهرين، حرصت المخرجة كاملة أبوذكرى على كشفها ومن الفتاة المتجولة إلى متهم داخل زنزانة صغيرة للغاية عمرو واكد وأمامه أحد أفراد الأمن يحقق معه ويعزبه. المتهم والفيلم يحمل رقم 1919 ويعمل كمدير مبيعات الشرق الأوسط لإحدى آلشركات، ربطوا عينيه طوال المدة، وعندما يظهر ضابط أمن الدولة الأكبر ليحقق معه اياد نصار يؤكد أن ما يحدث فى مصر وراؤه جهات أجنبية وفى النهاية يموت المتهم متأثرا بتعذيبه، والواقع أن أداء عمرو واياد وباسم كان واقعيا للغاية، عبر الآداء المتقن والاجواء المحيطة من اضاءة وتصوير، بل وكشف أحد أهم أسباب اندلاع الثورة، وكيف يعجز الأمن عن تفسير ما يحدث، وهو ما حرص على طرق المخرج مروان وحيد حامد.
فى آلعمل الرابع نرى «ان جالك الطوفان»، وفى اللقطة الأولى نرى من يبكى على خطاب الرئيس اياه ويقول: عايز يموت ويندفن فى مصر، ويرد عليه صاحب المقهى: بس بسرعة قبل ما نموت احنا؟!» وتسير الأحداث لنرى قصة شابين بلطجيين يحاولا جنى بعض المال من خلال بيع أعلام مصر تحمل صورة مبارك لمتظاهرى مصطفى محمود، عندما تبوء محاولتهما بالفشل مع مؤيدى مبارك بعد لان أعلاهمها حيث يكتبان عليها «فليسقط مبارك» وسط صورة فئة كشف ملامحها المخرج أحمد علاء.
وفى فيلم «حظر تجول» تدور أحداث الصورة التى جسد نبضها شريف بندارى فى السويس حيث نرى الجد الذى يجد نفسه عالقا مع حفيده وسط منع التجول والذى يجسد أحمد فؤاد سليم.. فالحفيد والجد ينظران للمركبات العسكرية باندهاش: ويأتي الجندى العسكرى ويسأل عن رخصة السيارة وتيساءل ألم يكن هناك حظر تجول ويبرر الجد وجوده بأن حفيده بلع لبيسة وذهبت به إلى المستشفى وعمل له إشاعة ولكن اتضح أنه كل فول نابت كثير ومعدته تعبت وعملنا له غسيل معدة، ويطلب منه الجندى أن يلف ويذهب من مكان آخر، وفى كل شارع يجد لجنة سواء عسكرية أو شعبية ويبقى فى الشارع حتى الصباح وفك ساعة الحظر وتحت عنوان «كحك الثورة« نرى الخياط أحمد حلمى الذى يجد نفسه أسيرا لدكانه حيث يغلق عليه بعد سماع صوت القنابل والرشاشات ويظن أن مصر تتعرض لاعتداء إسرائيليا، وبحبس نفسه فى المحل من 30 يناير، ونراه يأتى بشريط كاسيت ليسجل بصوته رسالة لأبيه عن وضعه والأحداث المحيطة والجوع الذى يشعر به، بعد أن أكل كل الكحك، ونرى أحداث موقعة الجمل، بلقطات حية سجلها فى عمله المخرج خالد مرعى.
من الخياط إلى ربة المنزل وردة وزوجها العاطل أو البلطجى حربى (هند صبرى وآسر ياسين) فى فيلم يحمل عنوان (تحرير 2 2) لمريم أبوعوف، وفى اللحظة يأتى صديق حربى العاطل ليخبره بأن هناك شبابا يريدون تخريب البلد ويعملون لصالح أمريكا وأنهم يريدون أن يشيلوا الريس وعلينا أن نضربهم، ويذهبوا بالأسلحة البيضاء، وهنا تطلب وردة من حربى أن يخلى باله من نفسه لانه لابد ان يسعى لقوت عياله، ويمنحها 50 جنيها اعطاها له صديق، الذى وعده بخمسين أخرى بعد انتهاء العملية، وبالفعل نرى حربى يأتى غارقا فى دمائه ويعطى وردة الخمسين الأخرى تغطيها دماء الشهداء فى مشهد رائع ومعبر ومؤثر وكخلفية لموقعة أدانها التاريخ والبشرية.. لكن هل كان حربى يعى ما يفعله؟!
وفى فيلم آخر بعنوان «شباك» نرى الأداء أكثر هدوءا وصمتًا.. فلا مجال بلغة الحوار.. لنرى شابا من عشاق الفيس بوك مرتبطا عاطفيا بجارته.. دون أن يعرب عن ذلك، فهو طوال الوقت يجلس على الكمبيوتر وينظر لها من النافذة ليراها تحمل أعلام وتكتب شعارات وتنزل الميدان، ولكنه ينتفض داخليا عندما يقطعون إرسال الإنترنت، ويضطر للاندماج فى الصورة الثورية التى عبر عنها أحمد عبدالله.
«أخيرا خرجت.. وأنا كنت مرعوبة» هكذا نطقت بطلة قصتنا الجديدة فى فيلم «داخلى خارجى» التى تجسدها منى زكى فى صورة تسير فيها فى ميدان التحرير، لتكشف كيف كانت تخشى الخوف من المشاركة لكنها بدت وكأنها تحررت من الخوف والقهر الذى تمارسه الحياة والزمن والنظام ونرى أيضا صديقه لهما يسرا تحمسها على المشاركة لكن زوجها الرافض الكائن بالمنزل لا يحب ذلك، لكنه شيئا فشيئا تحركه مشاعره لادراك الحدث ونراه وفى الصورة يمسك بيد زوجته داخل ميدان التحرير وسط الثوار.. وهو المشهد الذى دعت إليه صورة المخرج يسرى نصرالله.
وكان آخر الأعمال هو «أشرف سبرتو» الذى صور فيه المخرج أحمد علاء قصة حلاق شعر يتجول بفضل الثورة مالمصرية إلى بطل بعدما فتح محل الحلاقة لاستقبال جرحى الميدان، لدرجة أصبح يتعامل كطبيب يخيط الجروح ويداويها بالسبرتو.
وأشرف سبرتو كان هو وزوجته يتشاجران كأى زوجين حول مستلزمات العيش.. كانت حياة صغيرة تشغلهما وتؤرقهما.. الزوجة لم ترغب فى الانجاب حتى لا يتعذب الطفل فى مصير مجهول وشائك، وهو يريد أن يكون أساسى إلى ان تفك روح الثورة الأزمة وتنفرج المشاعر والرغبة فى العيش دون خوف أو حسابات فهناك شىء ما حدث ويحدث، عبر عنه أداء صادق لمحمد فراج وسمير غانم.
واقع الأمر أن أحداث ثورة 25 يناير تتطلب المزيد من العبر سينمائيا على رصدها ورؤيتها بشكل أعمق لكن مخرجى 18 يناير أصروا على تسجيل الصورة والحدث كتوثيق حقيقى لأهم 18 يوما فى مصر عبر تجارب إنسانية ووجهات نظر لمجموعة صناع الفيلم حتى وان كانت النية تتجه بعيدا عن الشعارات أو المباشرة السياسية وذلك برصد قصص بشر احاطت بهم الثورة واحاطوا بها.. إلا أن الاعتماد على شاشات وبيانات التليفزيون فى بعض الأعمال قلل شيئا ما من دفء حكايتها، وشخصياتها المستوحاة من قلب المجتمع.
التجربة تكررت فى الخارج وبالتحديد فى أحداث 11 سبتمبر، حيث يدرك كثير من شباب السينمائيين وشيوخهم تسجيل الحدث الأكثر تأثيرا، ويبقى «18 يوم» إحدى اللوحات السينمائية التى رسمت أحداث 18 يوما غيرت وجه ليس مصر وحدها بل والعالم العربى، فى معرض سينما الثورة الذى لم تكتمل ملامحه بعد.