كثير من النظريات والأفكار المجردة تبدو متماسكة صلبة، لكنها «تذوب» في مواجهتها الأولي بالواقع، كما تذوب قطعة الثلج بمجرد وضعها علي الطاولة في درجة حرارة الغرفة. الواقع إذًا محك مهم لاختبار صحة الفكرة وجدواها، خاصة لو كانت هذه «الفكرة» قانونًا، وظيفته «تنظيم علاقات الأفراد داخل المجتمع، وحماية حرياتهم من الاستغلال أو الانتقاص» أي: تنظيم هذا الواقع، الذي يؤكد مع ما سبقت مناقشته من عوامل التاريخ والقانون أهمية التمسك بالمادة الثانية من الدستور، والتي تنص علي أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع». وما دمنا نتحدث عن «الواقع» فلنتذكر أن النص لا علاقة له بالتفتيش في الضمائر ولا العقائد، وأنه لم يحل دون وجود «أديان» أخري، وعقائد وأفكار شتي. لم يطرد المسلمون من لا يعتنق دينهم، ولا كان لدينا في مصر في أي يوم من الأيام «محاكم تفتيش» تراقب الناس في سلوكهم اليومي: طعامهم وزيهم، زواجهم وموتهم، حديثهم وصمتهم، وتلزمهم بفتح الأبواب يومي الأحد والجمعة، ثم تحرقهم بتهمة قراءة كتب الإسلام. تلك المحاكم التي قامت في «الأندلس» بعد سقوطها في يد كاثوليك قشتالة وأراجون، ومنها انتقلت إلي مناطق أخري في أوروبا، وفي أمريكا الشمالية، ومازالت مستمرة حتي اليوم تحت مسمي «محكمة الإيمان» التابعة للفاتيكان. وعلي ذكر «الأندلس» فإن من سمي نهاية دولة الإسلام فيها سقوطًا هو الشاعر «فريدريكو جارسيا لوركا»، أبرز شعراء القرن العشرين، الذي أدلي بحديث لمجلة «جالو» الأسبوعية قبيل قتله علي يد قوات «الفالانج» قال فيه «لقد كان سقوط غرناطة الإسلامية «1492م» لحظة مشؤومة وإن كانوا يقولون عكس ذلك، لقد فقدنا منذ تلك اللحظة حضارة جديرة بالإعجاب والبقاء. فقدنا شعراً، وعلم فلك، وعمارة، وفنّاً، ورهافة حس لا مثيل لها في العالم. لكي تتحول ديارنا بعد ذلك إلي مدينة فقيرة، جبانة، وأرض جدباء تسودها أسوأ أنواع البورجوازية الإسبانية». كما أدلي بحديث لمجلة «السول» قال فيه: «أنتمي لغرناطة التسامح. غرناطة ما قبل السقوط في يد الكاثوليك». وتكملة القصة أن «لوركا» الذي قبض عليه ليقتل في العام 1936، لم يتمكن أحد من العثور علي جثته حتي اليوم! ولا حتي بين بقايا زملائه، الذين يفترض أنه أعدم معهم بتهمة «الشيوعية». ذلك أنه وحسب شاهد عيان تكلم مؤخرا فإن كتيبة «الفالانج» التي ساقت هؤلاء التعساء إلي حتفهم تحت جنح الظلام، راحت تضرب «لوركا» بكعوب البنادق طوال الطريق، كما راحت تشتمه وتؤنبه بسبب رأيه في حضارة الإسلام. كانت ضربات قاسية، قاتلة، تهاوي تحت وطأتها جسد «لوركا» ليسقط ويتركه «الفالانج» يلفظ أنفاسه علي الطريق، قبل بلوغ «حفرة الإعدام»، ما يفسر لنا لماذا عثروا فيها علي جثث رفاقه كلهم، لكنهم أبدا لم يعثروا علي جثته، ليموت بالضبط علي النحو الذي وصفه في إحدي قصائده، تحت القمر الذي طالما غني له، ومن دون جثة! هذا ما رأيناه، ونراه، علي الضفة الأخري من المتوسط، أما في مصر فإن «الإسلام» هو دين «الدولة»، بمعني مرجعيتها القانونية، وهي دولة ذات شخصية اعتبارية مستقلة عن مواطنيها، الذين يحق لهم اعتناق ما يرتضون من دين، بالضبط كما يحق لهم في معاملاتهم اليومية والتعبدية وكثير من الممارسات العلمية والفكرية استخدام لغة تختلف عن لغة المعاملات الرسمية «العربية». هذا ما تكفله المادة الثانية من الدستور، وما تتيحه «الشريعة الإسلامية» من واقع. لكن دعونا، لحسم المسألة، نفترض أننا ألغينا هذه المادة، فما المرجعية البديلة؟ السؤال مهم، وقد أشرت في المقال السابق إلي استحالة تطبيق شريعة «التوراة»، التي تريد لمصر أن تغرق في قيئها، حتي لا «نتمسخر» أكثر مما مسخرنا العدو الصهيوني، وحتي نحمِّله علي الأقل مشقة قتلنا وامتهاننا ولا نفعلها نحن بأيدينا. كما أن اتخاذ أي من المنظومتين اللاتينية أو الأنجلو أمريكية مرجعية، يعني عمليا وكما أشرت في المقال السابق أيضا أننا نعتمد قانون «جستنيان» الإمبراطور البيزنطي الذي تواصلت معاناة مسيحيي مصر في عهده ضربًا وقتلاً وتشريدًا. ولو افترضنا أننا سنذهب إلي المصادر المسيحية الأخري، غير الإنجيل الذي يحيلنا إلي التوراة، فإننا لا يمكن أن نطبق تعاليم مختلف الملل والطوائف، التي يعتمد كل منها «قانون إيمان» غير قانون الآخر (هل تختلف العبارة السابقة كثيرا لو قلنا: «يكفِّر» كل منها الآخر؟). ولو تجاوزنا هذا الاختلاف، فقط لنمضي مع الفكرة إلي نهايتها، فلنفترض أننا سنتخذ التعاليم «الأرثوذكسية» مرجعية، فما النتيجة؟ علي مستوي «الواقع» ستكون كارثة بكل المقاييس، أو هذا هو الوصف المناسب لخطوة ستكون أولي نتائجها هي إهدار نسب مئات المسيحيين، هذا ما قاله «البابا شنودة» في عظته الأسبوعية يوم الأربعاء 10 من فبراير الماضي، وعلق عليه «فادي حبشي» في جريدة «الفجر» قائلا: «خرج عدد كبير من الأقباط الذين حضروا عظة البابا شنودة الأربعاء الماضي وهم في حالة ذهول شديد، فقد أطاح البابا بهم وبأبنائهم من شرفة الإيمان الأرثوذكسي، حين نفي أن يكون قد صرح بشرعية زواج الأرثوذكس من الكاثوليك، فهناك عدد كبير من المنتمين إلي الكنيسة المصرية قد تزوجوا بالفعل منذ عشرات السنوات من كاثوليك، لكنهم كانوا يلجأون لإتمام زواجهم إلي الكنيسة الكاثوليكية التي اعترفت منذ عشرات السنوات بشرعية زواج الكاثوليك من أصحاب العقائد والديانات الأخري. واعتبر عدد كبير من الأقباط المصريين أن أولادهم الذين تم تعميدهم في الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية في مأزق شديد بعد أن حولهم البابا بجملة واحدة إلي «أبناء زنا» وحسب المقال نفسه فإن «البابا شنودة» قال: «إن الزواج يجب أن يكون بين شخصين متحدي الملة، وإذا اختلفا فإن القضاء المصري يطبق عليهما الشريعة الإسلامية». وقد تناولت جريدة «الشروق» الموضوع نفسه بخبر غطي مختلف جوانبه يقول نصًا : «نفت مصادر كنسية بالمجلس الإكليريكي العام، ما نشرته إحدي الصحف بسماح البابا شنودة بزواج الكاثوليك من الأرثوذكس دون إعادة تعميدهم أو إعلانهم الانضمام للأرثوذكسية. وقال كاهن المجلس الأنبا بولا أسقف طنطا والمسئول عن الأحوال الشخصية: إنه «لم يصرح للقناة الرسمية للكنيسة بأن البابا وافق علي الزواج من الكاثوليك، كما ذكرت الجريدة، بل كان يتحدث عن الزواج من السريان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس، وهو أمر تقليدي كان يتم التأكيد عليه لا أكثر، ولا تغيير في قواعد الزواج». وقال مصدر من كبار الأساقفة: إن الكاتدرائية الكبري بالعباسية تلقت مئات الاتصالات بسبب الخبر، مضيفًا أن «علاقات جيدة تربطنا مع الكاثوليك، لكن قرارًا بالزواج المتبادل لم يتخذ، بل ولم يطرح أصلاً للنقاش». وأضاف: «هناك اتفاقية تبادل اعتراف بالزواج والتناول مع الروم الأرثوذكس عمرها أكثر من ثماني سنوات، ونحن «الأقباط الأرثوذكس» تقليديا في وحدة كاملة مع السريان والأرمن، ولا توجد أي تعديلات علي قواعد الزواج في الكنيسة، وطرح قضية الزواج من الكاثوليك مسألة معقدة ولا يمكن التعامل بها بهذه السهولة». من جانبه قال الأنبا بطرس فهيم، نائب بطريرك الأقباط الكاثوليك: «لم نتفق مع الكنيسة الأرثوذكسية علي أي شيء فيما يتعلق بالزواج والطلاق، فالوضع كما هو عليه إما أن يتحول الرجل أو المرأة الطالب للزواج للطائفة الأرثوذكسية، أو أن يتحول للطائفة الكاثوليكية ليكون عقد الزواج صحيحا». وأضاف: «لو كان الزوجان مختلفين في الملة والمذهب، فسوف يتم تطبيق الشريعة الإسلامية عليهما لو طلب أيهما الانفصال، وهو أمر مرفوض». المئات «حولهم البابا بجملة واحدة إلي أبناء زنا»، كما كتب «فادي حبشي» في «الفجر»، ولا اعتراف بصحة بنوتهم إلا بأن يطبق القضاء المصري عليهم الشريعة الإسلامية، حسبما أشار «البابا شنودة» في عظته الأسبوعية، وهي إشارة تقر بالواقع، علي الرغم من أن المقصود بها هو التحذير، الذي جاء صريحًا واضحًا في قول «الأنبا بطرس فهيم» نائب بطريرك الكاثوليك: إن تطبيق الشريعة الإسلامية «أمر مرفوض»! عظيم يا نيافة الأنبا، ترمونهم من شرفة الإيمان، وترفضون الشريعة التي تعترف بهم أبناء شرعيين، فإلي أين يذهبون؟ أليسوا مواطنين مصريين؟ ألا يحق لهم أن يحظي وجودهم علي الأرض ابتداء بالاحترام والمشروعية؟ إن هؤلاء ليسوا إلا «قمة جبل الجليد» في الكارثة التي تستعصم مصر بشريعة الإسلام حتي لا تقع فيها.