حين أخبر سيدنا النبى إبراهيم عليه السلام ابنه النبى إسماعيل، أنه يرى فى المنام أنه يذبحه، بدأ فعليا وعمليا الصراع العربى- الإسرائيلى. وحين تزوج سيدنا إبراهيم من السيدة المصرية الجليلة هاجر غضبت -ولا شك- السيدة سارة زوجته الأولى العقيم. ويشاء السميع العليم أن تنجب كلتاهما فى آن واحد ابنيهما، ابْنَى إبراهيم «إسماعيل وإسحاق» وإذ بصراع موحش إلى الأبدية يتجسد فى التاريخ بين ابنى الضرتين، هاجر المصرية التى أنجبت إسماعيل نبى العرب وأبا العروبة وجد محمد صلى الله عليه وسلم، وبين سارة التى أنجبت إسحاق جد موسى عليه السلام وأصل اليهود واليهودية. هذا الصراع الذى يأخذ جذور الحضارة وفروع الدين وأصول السياسة، منبته وأصله، هو هذا الحدث الهائل فى تاريخ البشرية، تتبدى معضلة التاريخ فى التحامه مع الدين فى ارتباطه الصميم مع الجغرافيا، حين يرى اليهود أن النبى إبراهيم أوحى إليه الله بذبح النبى إسحاق وليس إسماعيل، وأن الله افتدى إسحاق بكبش عظيم من السماء، بينما لدينا، نحن المسلمين، أن القرآن المجيد يؤكد أن إسماعيل هو الذى افتداه ربه بكبش عظيم، وهو ما نحتفل ونحتفى به فى عيد الأضحى والأضحية.
ومن الطبيعى أن تختلف الأديان والديانات، وقد عاش الإسلام واليهودية والمسيحية كل هذه القرون الفائتة باختلافها، بل وصراعها المذهبى والحضارى، بل وكل دين احتوى فى حد ذاته على مذاهب شتى تتشابك وتشتبك وتتصارع وتتعارك فى ما بينها حتى الوصول إلى الدم، وتتحايل وتتفاهم وتتعايش منذ مئات السنين وهى تدفن اختلافاتها وأحيانا تنبشها من قبرها الذى لا يبدو عمقه مناسبا للدفن وللنسيان!
النقطة المهمة هنا هى إدراك طبيعة الدور الدينى فى الصراع مع إسرائيل والكيان الصهيونى، من المؤكد أن ما عشنا نتعلمه ونعلمه عن احترام الأديان والاختلاف فى المِلل والنِّحل وأنه لكم دينكم ولى دين، وأن اختلاف الدين ليس مبررا على الإطلاق للعداوة والبغضاء أو للحروب والدمار، مؤكد أن هذا هو الصحيح، وأن صراعنا مع إسرائيل لا يمكن أن يكون بسبب كونهم يهودا وليس لكونهم على دين آخر، فقد كان اليهود يعيشون معنا وبيننا عربا ومصريين طوال السنين دون تناحر أو تنافر، بل هرب اليهود مع المسلمين فى قوارب واحدة من الأندلس بعد سقوطها فى يد المملكة الإسبانية المسيحية، ولجأ اليهود هروبا من اضطهاد المسيحيين وتقتيلهم لليهود فى شوارع المدن الإسبانية عقابا لهم على معيشتهم الهانئة والكريمة والمتفاعلة مع المسلمين فى الأندلس، وربما لأن الهروب كان فرارا مشتركا بين المسلمين واليهود فى القوارب والزوارق والمراكب للمغرب، فنرى عددا كبيرا جدا من اليهود الذين يعيشون فى المغرب العربى وأطلقنا عليهم مصطلح اليهود المغاربة، منهم من هاجر إلى إسرائيل مع نكبة 1948، ومنهم من بقى فى المغرب حتى الآن فى واحدة من أكبر جاليات اليهود فى الوطن العربى، وبمناسبة الأضحية، فإن اليهود يرون أن النبى إسحاق هو من فداه الله بكبش عظيم، بينما المشهور لدينا نحن المسلمين، أنه سيدنا إسماعيل، وهناك دائما خطباء جوامع يصرون على تقديم موافقة سيدنا إسماعيل على أوامر ربه بذبحه «يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين» (102-الصافات) على أنها طاعة للأب إبراهيم وليست للنبى إبراهيم عليه السلام. لهذا تجد الخطيب عازما ومتوكلا على الله ومكبرا لصوته، مبالغا فى أدائه فيقول: أرأيتم لو جاء الأب إلى ابنه وقال له يا بنى إنى رأيت فى المنام أنى أذبحك، هل سيقول له يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين، أبدا ستجد الابن عاقًّا لوالده، رافضا لأوامره. لقد كانت لنا فى إسماعيل أسوة حسنة فى طاعة والده، حتى وهو يقول له يا بنى سوف أذبحك. إلى هنا ينتهى كلام كل خطيب مسجد. والحقيقة أن هذا الكلام فيه سذاجة تفتقر إلى التعقل والاتزان، فالمؤكد أن سيدنا إبراهيم نبى تلقى وحيًا وأمرًا، من ربه وليس أى أب يحلم بشىء كإبراهيم أو تأتيه رؤية كتلك يفعلها وينفذها وإلا كانت مصيبة، ثم إن إسماعيل تعامل مع والده على أنه النبى إبراهيم وليس الوالد.. ومن ثم لم تكن طاعة لأب يطلب طلبا غريبا ومأساويا، ولكن طاعة لإله ورب، يأمر فيطيعه الجميع. أما إذا جاء أب الآن ليقول لابنه هذا الكلام، فعلى الابن أن يذهب بوالده إلى أقرب طبيب نفسى. كذلك تقديم موضوع رجم الشيطان سبع جمرات فى شعائر الحج على أنه رجم للشيطان فعلا، فهذا أمر يجب أن ندرك بوضوح أنه شعيرة ورمز يدل على مدى كراهيتنا ورفضنا للشيطان الرجيم، ومقاومتنا له ولوسوسته، لكن لو كان الشيطان ينهزم بجمرات حجر، فلماذا ظل على قوته وإغرائه وغوايته كل هذه القرون، رغم كل الجمرات التى قذفناه بها فى مواسم الحج؟!