هذه الأيام يحتفل المسلمون بعيد الأضحى، حيث يحتشد عدة ملايين مسلم فى بقعة محددة من الأرض، يعيدون إحياء ذكرى تاريخية، بشكل سنوى مكرر. غير قابلة للتأجيل، رغم كل المحاذير أو حتى وباء أنفلونزا الخنازير الذى هلَّ علينا هذا العام.. سمة هذا اللقاء أنه عالمى إنسانى غير عنصرى مفتوح، متعدد الثقافات واللغات والأعراق والأجناس؛ فالمرأة تشارك الرجل، والأسود بجانب الأبيض، والصينى يجاور البوسنى، والفقير مع الغنى، يضمهم ثوب أبيض يلغى جميع الفوارق، من لغة وثقافة وعرق وطبقة، ويعيدهم إلى الأصل الإنسانى الواحد. - أيام مباركة نتجه فيها كمسلمين بقلوب تهفو نحو البيت العتيق فى مكةالمكرمة الذى جعله الله هدفاً للناس وأمناً، يقطعون إليه المسافات الطوال ويعانون متاعب السفر ويهجرون فيه الأهل والأحباب فى رحلة أفضل ما توصف به أنها رحلة إلى الله، رحلة مع النفس يتجرد الإنسان فيها من كل متاع الدنيا إلا ما يحمله من أعمال قد أحصاها وذنوباً قد اقترفها أملاً فى رحمة الله ومغفرته. - إنها محاولة متواضعة لاستعادة ذكرى عظيمة لقصة جرت وقائعها قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، قصة إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لنعى الدرس درس التضحية ونفهم مغزى رمز الأضحية - يذكرنا يوم العيد بالإيمان العميق، والإخلاص الكامل، والطاعة المطلقة، والتضحية التى لا تعرف التردد لأبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فقد أراه الله فى المنام أنه يذبح ابنه الوحيد وفلذة كبده، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام لم يرزق الولد إلا بعد أن كبرت سنه وانحنى ظهره وكان كثيراً ما يتطلع إلى ذرية تنشأ فى طاعة الله وتعينه على مصاعب الحياة، لكن الله أراد أن يختبره فى هذا الولد وكان الامتحان قاسياً ومريراً، فاجتمع إبراهيم بأسرته، وعرض الأمر على الأم فقال إن الله أمرنى - والأمر كله لله - أمرنى أن أذبح ابنى إسماعيل وقد استجبت ورضيت، فلم تجزع الأم ولم تتردد، بل تجلى الإيمان فى قلبها وقالت: نعم ما أمرك الله، طاعة الرحمن فوق المال والولد والأرواح والأبدان، ثم عرض الأمر على إسماعيل فقال إسماعيل الابن البار المطيع: يا أبتِ أفعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين. - إن جدنا الأول إبراهيم الخليل عليه السلام هو رمز للتضحية فقد تقدم ليضحى بابنه كما سبق أن أسلم نفسه للنيران وقلبه للرحمن ولذلك اتخذه الله خليلا. لكن النيران كانت عليه بردا وسلاما وكان افتداء الله لإسماعيل بكبش قيل إنه هو نفسه الكبش الذى قبله الله من هابيل كأضحية وتركه فترة فى الجنة وبذلك صار لهذا الحيوان قيمة خاصة بالنسبة للتضحية والأضحية والنذر الذى نجده كثيرا فى تقاليدنا عندما نشترى بيتا أو سيارة أو ننذر نذرا ومن نفس هذا الحيوان نرى أن من نذر نفسه لله وترك متاع الدنيا غالبا يلبس الصوف و لذلك يسمون متصوفين.. واليوم يكرر الحاج إعادة نفس أعمال المؤسس (سيدنا إبراهيم) من تلبية وطواف ورجم وذبح.. كلها طقوس تكرر ما قام به إبراهيم وزوجته وابنه. إن الحاج بذلك يتطهر ويخلق من جديد.. وهكذا أصبح مبدؤنا أن من يضحى بنفسه لا يموت بل يبقى حياً (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ومن نفس هذه الينابيع الأولى جاء منهجنا فى النضال بالعمل الفدائى وتمنى الشهادة ثمناً للنصر. - وهكذا تحولت الذكرى إلى عيد، يتجدد كل عام ولكن بكل أسف بدون الوعى التام لمعنى التضحية والفداء الذى كثفه هذا الرمز وهو الأضحية، ليتحول المعنى إلى مجرد شعيرة تؤدى وعيد لأكل اللحم والفتة وصوانى الرقاق.. فكل عام وأنتم طيبون وأكثر قدرة على العطاء ورغبة فى بذل التضحيات..؟