فى تاريخ الرياضة المصرية والعربية، وكرة القدم على وجه الخصوص، لم يحقق أى لاعب ما حققه محمد صلاح من شهرة ومجد وبطولات وجوائز وأرقام تتحدث عن نفسها. فمنذ ظهوره مع نادى المقاولون العرب فى موسم 2010–2011، ورغم الاضطرابات الكبرى التى شهدتها المسابقات الرياضية بعد ثورة يناير، وما تلاها من أحداث مؤلمة، وعلى رأسها مأساة استاد بورسعيد، حافظ صلاح على حلمه، وواصل الاجتهاد والعمل بصمت، حتى تمكن من خوض تجربة الاحتراف بعد إلحاح طويل على مسئولى ناديه، وبعد أن رفضه أحد كبار مسئولى نادى الزمالك بحجة ضآلة حجمه! بدأ منذ البداية وكأن المسار مهيأ لأن تكون أسطورة صلاح خالية من الشوائب. فلم يلعب للأهلى أو الزمالك، وإلا ربما ما كان احترف من الأساس، أو لتم تصنيفه مبكرًا على أنه ابن هذا النادى أو ذاك، بكل ما يحمله ذلك من مبالغات فى التقديس أو فى الهجوم. هكذا أصبح صلاح رمزًا عامًا لكل المصريين، لا محسوبًا على قطب بعينه، ولا أسيرًا لاستقطاب جماهيرى ضيق الأفق. لم تكن رحلة الوصول إلى المجد العالمى سهلة. فقد واجه صلاح مستويات أعلى من المنافسة، وثقافات جديدة، ولغات مغايرة، لكنه تمكن من تطوير نفسه بدنيًا ومهاريًا، متنقلًا من سويسرا إلى إنجلترا، حيث كانت تجربة تشيلسى القاسية، التى لم تكن نهاية الطريق، بل بداية رحلة أصعب لإثبات الذات فى فيورنتينا ثم روما، قبل العودة إلى الدورى الإنجليزى من بوابة ليفربول. مع ليفربول، دخل صلاح عالم الأساطير الكروية. فحقق مع فريقه أكبر البطولات فى عالم كرة القدم، الدورى الإنجليزى ودورى أبطال أوروبا، وهما بطولتان غابتا عن خزائن النادى لسنوات طويلة، بل لعقود. فآخر لقب دورى إنجليزى كان عام 1990، وآخر دورى أبطال أحرزه النادى كان عام 2005. لم يكن صلاح وحده بالطبع، بل جزءًا من مجموعة مميزة من اللاعبين، وبقيادة أحد أعظم مدربى العالم، يورجن كلوب، لكنه كان أحد الأعمدة الرئيسية فى هذا الفريق، مسهمًا فى الفوز بالدورى الإنجليزى مرتين، ودورى الأبطال مرة، إلى جانب بطولات أخرى عدة، أبرزها كأس العالم للأندية. • • • إلى جانب كل هذه البطولات، حقق صلاح إنجازات فردية نادرة، أبرزها فوزه بلقب هداف الدورى الإنجليزى أربع مرات، وهو إنجاز بالغ الصعوبة فى أقوى دوريات العالم، ويضعه فى مصاف نخبة محدودة للغاية من لاعبى كرة القدم من أبناء جيله! أما على مستوى المنتخب الوطنى، فقد قاد صلاح مصر إلى نهائى كأس الأمم الإفريقية مرتين، وإلى نهائيات كأس العالم فى نسختى 2018 و2026. وإذا ما شارك فى مونديال 2026، فسيكون واحدًا من قلة نادرة من لاعبى هذا الجيل الذين خاضوا البطولة مرتين. وإذا نجح فى التسجيل، فسيصبح اللاعب المصرى الوحيد الذى يسجل فى أكثر من نسخة مونديالية، وثالث لاعب عربى يحقق هذا الإنجاز بعد سامى الجابر وسالم الدوسرى مع المنتخب السعودى، وكلها أرقام لا تحتاج إلى تعليق! ورغم هذا السجل الاستثنائى، لم يسلم صلاح يومًا من محاولات التشويه. فمع كل أزمة أو تراجع، يظهر من يسعى للنيل منه أو التقليل من إنجازاته، وكانت أحدث هذه الحملات عقب الأزمة الأخيرة بينه وبين ناديه ومدربه. من حيث المبدأ، صلاح، كأى لاعب مهما بلغت أسطورته، ليس فوق النقد، ونقده حق مشروع. لكن الفارق شاسع بين النقد الموضوعى وبين التشويه والتدليس والكذب! تصريحات صلاح الأخيرة الغاضبة تستحق النقد بالفعل، وربما لم تكن موفقة مهما كانت الضغوط. كما أن له مواقف سابقة لم يكن موفقًا فيها، ومنها موقفه من زميله السابق عمر وردة عام 2019. كما أن المتابع المنصف يدرك أن مستوى صلاح هذا الموسم شهد تراجعًا نسبيًا. كل ذلك قابل للنقاش، بل ومطلوب. وحتى إن انزعج صلاح من هذه الانتقادات، فالأصل أن يكون الرد فى الملعب، لا عبر التصريحات الإعلامية. لكن ما لا يمكن قبوله هو الادعاء بأنه لم يكن نجمًا، أو أنه فشل مع تشيلسى، أو الربط بين أزمته الأخيرة وبين عقاب إلهى بزعم تخليه عن أطفال غزة! فهنا نخرج من دائرة النقد المشروعة إلى دائرة التدليس غير المقبول بكل تأكيد. فحتى لو قرر صلاح اعتزال الكرة صباح الغد، أو الرحيل إلى أى دورى آخر أقل فى المستوى من الدورى الإنجليزى، فإن حقيقة واحدة لن تتغير: محمد صلاح نجم عالمى دخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولا يوجد سوى قلة من لاعبى جيله حققوا ما حققه! أما تجربة تشيلسى، فهى مثال واضح على سوء الإدارة لا على الفشل الفردى. لم يحصل صلاح هناك على فرصة حقيقية، وكان يلعب فى فترة شهدت وجود أسماء كبرى لم تُمنح بدورها الوقت الكافى مع تشيلسى فى التوقيت نفسه، مثل كيفن دى بروين، وروميلو لوكاكو، وناثان آكى، وتيبو كورتوا، وغيرهم، وكلهم غادروا تشيلسى ليصبحوا نجومًا عالميين. فهل فشل هؤلاء، أم أن النادى هو من فشل فى الحفاظ عليهم؟ • • • أما الربط بين أزمة صلاح الأخيرة وادعاء تخليه عن أطفال غزة، فهو ربط فاسد أخلاقيًا ومنطقيًا. فصلاح لم يتخلَّ عن غزة، وقد تحدث وأدان جرائم الحرب بوضوح أكثر من مرة، لكن بطريقته هو وتوقيته هو! جوهر الأزمة لا يتعلق بغزة بقدر ما يتعلق بصدام أعمق مع بعض التيارات الإسلاموية، أو بعض الأفراد الفاشلة فى مجالاتها من خارج هذه التيارات، وهو صدام هوية بالأساس! صلاح، الذى يصلى ويصوم، وتظهر زوجته المحجبة فى كل المناسبات، ولا يُعرف عنه السهر أو تناول الكحوليات، كان من حيث الشكل أقرب ما يكون إلى النموذج الذى تروج له هذه التيارات. لكنه فى الجوهر رفض الخضوع لمنهجها الشمولى، وقرر أن يعيش بطريقته. اختار أن يكون إنسانًا منفتحًا، فشارك فى عزاء ملكة إنجلترا، واحتفل بالكريسماس، وعبّر عن موقفه من حرب غزة دون أن يردد شعارات جاهزة، أو يخضع لابتزاز أخلاقى. المشكلة أن صلاح يفعل كل ذلك وهو محتفظ بكل مظاهر التدين. يهنئ بالكريسماس وهو مسلم يصلى ويسجد، ويتحدث عن غزة دون أن يتنازل عن حريته الشخصية فى اختيار التوقيت أو الكلمات، ودون أن يتأثر بأى مزايدات فى هذا الشأن. هذا النموذج الحر فى التفكير والسلوك يضرب فى صميم الفكرة الإسلاموية وغيرها من الأفكار الشمولية التى تفترض وجود قالب واحد للحياة، أو للتدين، أو للتأييد أو الاستنكار أو التضامن، أو للتعامل مع الغير المختلف فى العقيدة أو الثقافة! إذا افترضنا، جدلًا، أن الفشل أو التعثر علامة على غضب إلهى، فإن أولى الجماعات التى ينطبق عليها هذا المنطق هم أنفسهم من يهاجمون صلاح، بعدما عاشوا قرنًا كاملًا من الهزائم والإخفاقات وخيبات الأمل. لكن هذه المفارقة لا يتوقفون عندها، وفى الأرجح لن يفعلوا أبدًا! فى النهاية، محمد صلاح ليس ملاكًا، ولا إنسانًا مثاليًا، لكنه بالتأكيد ليس مسئولًا عن دم أطفال غزة، ولا أزمته الأخيرة عقابًا إلهيًا. هو إنسان اختار طريقه، ودفع ثمن استقلاله، ونجح نجاحًا أسطوريًا رغم كل شىء. شكرًا لمحمد صلاح على كل هذه المتعة، وكل هذا الإلهام، وعلى هذا الأمل الذى منحه لملايين البشر حول العالم، ممن يرون فى كرة القدم نافذة للحلم الذى لا يخلو من الرفاهية. شكرًا لأنه أثبت أن الإنسان العادى يمكنه، بالاجتهاد والصدق، أن يصل إلى أقصى الأحلام، وأن التعددية والإنسانية ليست ضعفًا، بل شجاعة لا يمتلكها ولا يقدر عليها إلا القليل من البشر! أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر