أيام مباركة نعيشها الآن ندعو الله أن ينشر بركتها على مصر الحبيبة ويعيد إليها الأمن والأمان فى نفس اللحظة التى يتجه فيها المسلمون بقلوب تهفو نحو البيت العتيق فى مكةالمكرمة الذى جعله الله مثابةً للناس وأمناً، يقطعون إليه المسافات الطوال ويعانون متاعب السفر ويهجرون فيه الأهل والأحباب فى رحلة أفضل ما توصف به أنها رحلة إلى الله، يتجرد فيها الإنسان من كل متاع الدنيا إلا ما يحمله من أعمال وذنوب وأمل فى رحمة الله ومغفرته. ولأن كل عمل عظيم يقتضى تضحية عظيمة وفقاً للأساطير الرومانية القديمة فكانت الأضحية هى رمز التضحية بهدف التقرب إلى الله.. وقصة الذبيح إسماعيل «عليه السلام» هى أروع مثال للتضحية وامتثال أمر الله فى كل خطوة فى الحياة وكل عمل وكل مرحلة من مراحلها سواء كان على المستوى الفردى أو الاجتماعى أو الإنسانى تحتاج إلى تضحية فلا بد من تعلمها واستشعارها وممارستها. أيضاً، لكل من التضحية والأضحية ثمارها إذ إنها تحقق تعاوناً وترابطاً بين المسلمين والناس جميعاً. لأن الإنسان لا يستطيع العيش إلا فى ظل من التعاون على البر والتقوى والترابط الفكرى والاجتماعى والسياسى والتكافل لدعم المحتاج ودفع الحاجة عنه أياً كان نوعها وهذه كلها تحتاج إلى تضحيات كبار لا بد من استشعارها وتعلمها من هذه المناسبة خاصة فى تلك الأيام الصعبة التى نحياها على المستوى القومى والفردى. ولنعلم أن فى كلٍ من التضحية والأضحية خير للمضحىِ والمضحى من أجله والله تعالى قد أطلق فعل الخير من كل قيد فقد قال عز وجل (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهكذا صارت الأضحية سنة أبينا إبراهيم «عليه السلام».. ليست مجرد دم يراق، إنما هى رمز لكل تضحية لله مهما كان الثمن غالياً وعزيزاً. ونجد أيضاً أن المغزى الأساسى وراء فكرة التضحية بكل صورها هو طاعة الله والتقرب منه، والتحرر من العبودية والتكفير عن الذنوب والخطايا. فالتضحية ماهى الا الأضحية فى الأديان، ففى اليهودية كانت الذبائح التى يتقدم بها الكهنة نيابة عن الشعب رمزاً للتكفير عن الخطيئة. وحين جاءت المسيحية آمن أتباعها بالفداء والخلاص بدم السيد المسيح. أما فى الإسلام فيتم ذبح الأضحية فى عيد الأضحى تيمناً بالنبى إبراهيم الذى كاد أن يذبح ابنه طاعة لأمر الله قبل أن يتم افتداؤه بكبش سمين. ولم يقتصر وجود نظرية وممارسة التضحية بالدم على الأديان وكتبها المقدسة فقط، وإنما تمتلئ كتب التاريخ بقصص وروايات عن تضحيات ثمينة قدمها الأجداد والآباء فى الماضى دفاعاً عن الوطن والحريات، كما لاتزال عناوين الأنباء تحفل بتضحيات يقدمها الأبناء والأحفاد فى الوقت الراهن فى سبيل حقوق الإنسان والمساواة والثورات على الطغاة. والمجتمعات الحديثة لها أيضاً قرابينها التى تضحّى بها لطرد الشرور من جسدها مثل التضحية بالجانى لخلاص الجميع، ذلك جوهر القوانين البدائية كلها دينية أو غير دينية. وهكذا نرى أن تقنين الغرائز المولّدة للخطايا يتّبع طريقتين: الأولى طقوسية والثانية قانونيّة. نجد الأولى فى مختلف الشعائر الدينية كأضاحى الحجّ لدى المسلمين، أو عيد الغفران الذى يقوم فيه اليهودىّ بوضع دجاجة حيّة على رأسه لتحمّل خطاياه وخطايا عائلته ثم يقوم بذبحها.. وكما تجدها فى طقوس الديانات الوثنية الأفريقية كذلك. وقد بلغتْ هذه الطقوس شكلاً أكثر تعقيداً وأشدّ ترميزاً كما فى تحمّل المسيح خطايا البشر واعتباره القربان الكامل لخطاياهم، أو كما فى بعض التأويلات الشيعية التى رأت فى ذبح الحسين خلاصاً لشيعته. أما الطريقة الثانية فنراها فى صنوف العقوبات الدينية الناصّة على قتل القاتل، كما نجدها فى الأعراف القبلية كذلك (الثأر أنفى للدم). وعندنا نحن العرب مفهوم خاص للتضحية والفداء يختلف عن أغلب شعوب العالم. إنه مفهوم متجذر فى عمق شخصيتنا وله جانب مهم فى تكويننا نجده فى عباداتنا وطقوسنا الدينية وتقاليدنا الشعبية. وقد تكون التضحية بالنفس أو المال أو الممتلكات تقوم على إنكار الذات فى سبيل الله والمقدسات. إن جدنا الأول إبراهيم الخليل الذى أصبح نمطا ورمزا للتضحية فقد قدم ليضحى بابنه كما سبق أن أسلم نفسه للنيران وقلبه للرحمن ولذلك اتخذه الله خليلا. لكن النيران كانت عليه برداً وسلاماً وكان افتداء الله لإسماعيل بكبش قيل هو نفسه الكبش الذى قبله الله من هابيل كأضحية وتركه مدة فى الجنة وبذلك صار لهذا الحيوان قيمة خاصة بالنسبة للتضحية والأضحية والنذر ونجده كثيراً فى تقاليدنا عند من يشترى بيتاً أو سيارة أو ينذر نذرا ومن نفس هذا الحيوان نرى أن من نذر نفسه لله وترك متاع الدنيا غالباً يلبس الصوف و لذلك يسمون متصوفين. وهكذا تحولت الذكرى إلى عيد، يتجدد كل عام ولكن بكل أسف بدون الوعى التام لمعنى التضحية والفداء الذى كثفه هذا الرمز وهو الأضحية، ليتحول المعنى إلى مجرد شعيرة تؤدى وعيد لأكل اللحم والفتة وصوانى الرقاق.. فكل عام وأنتم طيبون وأكثر قدرة على العطاء وأشد رغبة فى بذل التضحيات وأولها إنكار الذات وإعلاء المصلحة العليا للوطن والدين.