يعتبر وضع الدستور المصري هو الشاغل الأول لكافة القوي والتيارات علي الساحة السياسية الأن. فلا يوجد تيار سياسي أو كتلة مجتمعية إلا وتريد أن تضمن تمثيلها في الجمعية التأسيسية للدستور وتعتبره هو الضمان الوحيد للحصول علي حقوقها. ولكن السؤال الأهم ممن يتم تمثيله في جمعية كتابة الدستور هو معرفة ماذا سيتم كتابته ؟ فقد ننجح في تمثيل كل طوائف المجتمع ولكن في ذات الوقت نفشل في التطرق لكل المواضيع التي يجب علينا التطرق لها و نعود إلي نقطة البداية من جديد. ومن أهم المواضيع التي أخشي عدم إعطائها حقها في الدستور الجديد هو الوضع الإقتصادي فلا توجد لدينا أي خبرة جيدة يستند لها عند كتابة هذا الجزء في الدساتير السابقة تبشر بقدرتنا علي صياغة دستور قوي من الناحية الإقتصادية. كما أن تعقد الوضع الإقتصادي الحالي علي المستوي المحلي وإرتباكه علي المستوي العالمي قد يحول دون فهم صحيح لطبيعة المرحلة التي تمر بها مصر الأن وما تتطلبه من إنجازات علي الصعيد المؤسسي الذي يتربع علي قمته الدستور كأول وأهم ترتيب مؤسسي علي كافة المستويات. وبالتالي فإنه إذا أغفلنا أهمية الجزء الإقتصادي سنعود مرة أخري الي حالة من التخبط والتأويل للقوانين والتشريعات والتي قد تخضع لأهواء تيار أو أحزاب معينة. ولذلك يجب علينا وضع أسس سليمة تمثل ضمانة لنظام إقتصادي قوي يسعي لتحقيق أهدافه مهما تعاقبت عليه الحكومات والأيديلوجيات.
وعند إستعراض الدساتيرالمختلفة لدول العالم النامي والمتقدم نجد أن كثرة التفاصيل في تحديد ماهية النظام الإقتصادي تتناسب عكسيا مع تقدم الدولة وديمقراطيتها. فنجد أن اكثر الدول تقدما، كالولايات المتحدة ودول أوروبا، هي أقلها في ذكر تفاصيل النظام الإقتصادي بينما تكون الدول النامية والديمقراطيات الناشئة، كالبرازيل وتركيا وملازيا,هي الأكثر حرصا وحاجة إلي تحديد طبيعة النظام الإقتصادي بشكل أكثر تفصيلا في دساتيرها. وهو الذي يعكس عدم إكتمال مؤسسات الدولة في هذه الفئة من الدول ليقوم الدستور بمهام العديد منها إلي أن يتم إعاده بنائها.
يمكننا بشكل عام إجمال الأسس الإقتصادية التي نحتاج وضعها في الدستور القادم تحت قسمين أساسيين: 1) أسس متعلقة بطبيعة النظام الإقتصادي: ويتم إدراجها ضمن الأبواب الأساسية في الدستور. 2) أسس متعلقة بالأولويات الإقتصادية للدولة: ويتم إدراجها ضمن القوانين المكملة للدستور. أولا: الأسس المتعلقة بطبيعة النظام الإقتصادي: ويقصد بها المبادئ المتعلقة بشكل النظام الإقتصادي وأركانه الأساسية. ويتم إدراجها ضمن الأبواب الأولي للدستور لما تمثله من أهمية وركيزة ثابتة لا تتغير في الدولة.
أهداف النظام الإقتصادي: من الطبيعي أن يكون أول ما نخطه في هذا الصدد هو الأهداف الأساسية من الإقتصاد المصري ككل والذي يعكس تطلعات المصريين المختلفة كأفراد وكمجتمع. فمواطني أي دولة يسعون إلي عيش هانيء وفرصة لأثبات الذات وتحقيق المكتسبات كما يرغبون في دولة قوية ذات سيادة علي مواردها لا يتحكم في قوتها أحد ولا يؤثر علي قرارها ذو منة.
شكل النظام الإقتصادي:بعد تحديد وجهة الإقتصاد يأتي إختيار الوسيلة التي ستوصلنا إلي هذه الوجهة من خلال تحديده الشكل الأساسي للنظام الإقتصادي هل هو رأسمالي ؟ أم مختلط ؟ أم يقوم علي قيادة الدولة ؟ وفي الحقيقة تميل معظم القوي السياسية في مصر الأن إلي النظام المختلط الذي يسمح بجني ثمار كلا من النقيدين الرأسمالي والمركزي ولكنه يمثل تحديا أكبر في تحديد الأركان الأساسية لهذا النظام التي ستتميز بعدم التجانس ثم صياغة آليات التفاعل فيما بينها ليتم وضعها في قالب واحد يخدم مصلحة قوي مجتمعية وسياسية متبانية في الخصائص والأهداف.
أركان النظام الإقتصادي: وأقصد هنا تعريف واضح وشامل لأركان النظام الذي تم الإتفاق عليه. فإذا أردنا نظاما إقتصاديا يقوم علي مبدأ المنافسة الكاملة وحرية التملك والإستمثارفلن يكون ذلك إلا بتعريف صريح للمنافسة الكاملة وأشكال التملك وطبيعة الإستثمارات بشكل متكامل غير منقوص ولا يسمح بالتأويل. هذا التعريف الصريح لأركان النظام سيساعد بشكل كبيرعلي سد الفجوة المؤسسية الموجودة في الدولة (إلي أن يتم إعادة هيكلتها بما يتطابق مع الخطط المطروحة) حيث ستكون هذه الأركان المفصلة بمثابة البوصلة والمرجعية الأساسية للمضي قدما في خطط التنمية الإقتصادية بمشروعاتها المختلفة دون تردد أو تأجيل ودون الإستعجال في سن التشريعات أو في خطط إعادة الهيكة.
وأيضا من أهم أركان النظام الإقتصادي هي القطاعات الإقتصادية المختلفة من قطاع عام، خاص وتعاونيات والتي يجب توصيف طبيعتها ومهامها. كما يجب تحديد دور الرقابي للدولة علي الأفراد والقطاع الخاص وتدخلها في هذا الجانب من النشاط الإقتصادي مع ذكر متي وكيف يتم هذا التدخل.
تقسيم السلطات: فكما يتم تقسيم السلطات السياسية بين أركان الدولة الأساسية من برلمان ورئاسة وحكومة، فيجب أيضا تقسيم السلطات الإقتصادية بين هذه الأركان الثلاث. فقد عانينا منذ فجر التاريخ بمسئولية الرئيس المنفردة والمطلقة علي وضع الخطط وتنفيذ المشروعات بينما يقتصر دور البرلمان علي الموافقة علي الأهداف والمبادئ العامة لخطط التنمية دون مراقبة حقيقية لعملية التنفيذ في المراحل المختلفة أو ضمان لإتساق هذه المشروعات ضمن رؤية إقتصادية موحدة تزيد من معدلات النمو وتضمن تحقيق تنمية حقيقية. ويمكننا الإشارة هنا إلي ثلاثة مسئوليات أو سلطات أساسية:
سلطة التخطيط (البرلمان المنتخب مع الحكومة)سلطة التنفيذ (الحكومة بقيادة رئيس الجمهورية)سلطة المراقبة والمحاسبة (البرلمان مع أجهزة مستقلة)
مع تحديد الألية التي سيتم من خلالها تقسيم هذه السلطات علي أحد (أو بين شقين) من أركان الحكومة.
الموارد الطبيعية: وهو ركن أساسي في دساتير الدول التي تتمتع بوضع خاص لمواردها الطبيعية، إما من خلال ميزة نسبية لموقعها الجغرافي (كالهند مثلا) أو من خلال توافر الموارد الأولية بكثرة في أراضيها (كالصين). وتتزداد أهمية هذا القسم كلما كانت الدولة أكثر إعتمادا علي هذه الموارد في تحقيق أهداف التنمية وأيضا كلما زادت نسبة إهدارهذه الموارد في التجارب السابقة لهذه الدول فدائما نستمع لعبارة "إهدار موارد الدولة" وأنها جريمة يعاقب عليها القانون حتي أصبحت هاجسا أمام كل مسئول في الدولة تحول دون إتاخذه القرارات الصائبة في توقيتاتها. فيترتب علي ذلك إهدار أكبر للموارد. وصار الكل يرمي مسئوليته علي الأخر أو يجتمع بكافة المختصين قبل إتخاذ أي قرار ليضمن عدم القاء اللوم عليه وإتهامه بإهدار المال العام. وبالتالي يجب تحديد ماهي موارد الدولة بصورها المختلفة ومن يحق له التصرف في كل مورد منها (بالبيع أو التأجير) ومعايير هذا التصرف. كما يجب تحديد الحالات التي يتم إعتبارها إهدارا لهذه الموارد.
الإقتصاد الإسلامي: ولم يحسم بعد الجدل القائم حول هذا الشأن. فلم يتم تقريرما إذا كنا سنتحول إلي نظام إقتصادي إسلامي وكيفية ومتي تحقيق هذا التحول، وهو الأمر الذي سيحدث في مرحلة لاحقة من وضع الدستور بلا شك, ولكن إذا تم إقرار هذا التغير فإنه سيخضع في مرجعيته وكيفيته لأهواء الأغلبية النيابية في ذلك الوقت. ومن هنا تأتي الضرورة بأن تضع اللجنة التأسيسية الممثلة لطوائف الشعب مادة في الدستور تحدد الجهة التي يعتد بها كمرجعية شرعية إذا تم التوجه نحونظام اقتصادي إسلامي (الأزهر). بحيث تتم دراسة كيفية ووقت هذا التحول وإتخاذ القرار بتنفيذه في مرحلة لاحقة. فإذا رأي أيا من رئيس الجمهورية أو البرلمان أن الإقتصاد المصري في حالة تسمح له بتقبل هذا النظام الجديد، يمكن لأي منهما تقديم مشروع قرار بالبدأ في هذا التنفيذ (علي الدراسات الموضوعة سابقا) ليأخذ مراحل سن التشريعات المعتادة داخل البرلمان. وتصدر الجهة المرجعية المختصة وثيقة يتم إلحاقها في القوانين المكملة للدستور تتضمن المباديْ الشرعية لهذا النظام الجديد. وبهذا نكون قد حسمنا جدل متي يتم التحول وكيفية القيام به دو الدخول في المخاطر التي قد تنجم من الإنفراد في إتخاذ القرار.
ثانيا: أسس متعلقة بالأولويات الإقتصادية للدولة: وتختلف هذه الأسس بإختلاف المرحلة التي تعيشها الدولة طبقا للتطورات المجتمعية التي تطرأعليها، التغيرات المحيطة بها في دول الجوار والعالم، وأيضا مدي نجاحها في تحقيق الأولويات السابقة التي شرعت فيها. هذه الطبيعة المتغيرة تجعل من الصعب وضع هذه الولويات ضمن الأبواب الأساسية في الدستور لنلجأ فيما بعد للتعديل والحذف مما يفقد الدستور تماسكه ورمزيته كأساس ثابت للدولة المصرية, ويسلبنا قدرتنا عي التعبير عما نحتاجه والتوقف لفترة عبر مراحل زمنية مختلفة لمراجعة ما أنجزنها ونصحح المسار. ويبدو أن أولويات الفترة القادمة تحتوي علي ثلاثة عناصر أساسية: 1) العدالة الإجتماعية: وهي إرث ثقيل خلفة النظام السابق لنصارع معه لفترة مستقبلية ليست بالقصيرة. وبالتالي يجب أن نوضح ما شكل هذه العدالة التي نريد تحقيقها، كيفية التحقيق, والمؤشرات التي تدلنا علي أننا نسير في الطريق السليم. 2) المشاريع القومية: وهي السمة الأساسية لكافة التحليلات الإقتصادية وبرامج الأحزاب ومرشحي الرئاسة. ومشروعات بهذا الحجم تتمتع بتكلفة عالية لا نملك فيها رفاهية الخطأ. كما أن مثل هذه المشروعات ستؤثر علي المتغيرات المجتمعية والإقتصادية علي حد سواء (Socio-economic variables) أي أنها ستعمل مجتمعة علي تغير طبيعة وسلوك المجتمع المصري في المستقبل ولذا يجب التخطيط لها بحرص شديد ومراقبتها عن قرب. 3) التعامل مع المعونات والإستثمارات الأجنبية المباشرة: وتعتبر معظم دول العالم المعونات والإستثمارات التي تحصل عليها من دول أخري بمثابة وسائل للتمويل تتم طبقا للإتفاق بين الدول وآليات السوق المتعارف عليها. ولكن هذه القضية طالما كانت مصدرا أساسيا للإفساد وإختلال السوق المصري مما يستوجب تنظيمها بمبادئ تعكس إحتياجات المرحلة. كما يجب إشمال الجهات التي ستقوم بالإشراف علي هذه التدفقات وضمان أدائها لوظائفها.
تعبر المبادئ السابقة عن الخطوط العريضة لوضع أول أساس مؤسسي للنظام إقتصادي ضمن أي دستور، لتستمد منه باقي المؤسسات وظيفتها. قد نختلف حول التفاصيل ولكنه يمثل الإطار الذي نتحرك بداخله. ويبقي ترجمة هذه المبادئ إلي منجازات حقيقية مرهونأ بكافئة الحكومات في إدارة باقي مؤسسات الدولة.