أعرف حمدين صباحي معرفة وثيقة وكنا أصحاب بجد .. ولا غرابة في كلامي ، فقد كنا زملاء في كلية الإعلام ودفعة واحدة .. ومن زمان وهو جدع وابن بلد وواحد من الناس الطيبين والثائرين، وكنا نختلف حين نتناقش حول عبد الناصر.. فحمدين يراه اسطورة ويُغمض عينيه عن الكثير من زلاته ، وانا احبه فعلا – أقصد عبد الناصر – لكنني أرى له اخطاء بشعة .. غير ان اختلاف وجهات النظر بيني وبين حمدين لم تفسد ابدا للود قضية .. ومع أنه زميلي ودفعتي وكان صاحبي ، إلا انني ارى فيه مراهقة سياسية لم تبرحه منذ اكثر من 40 سنة. غير انني فوجئت وخاصة بعد المناظرة الأشهر بين عمرو موسى وابو الفتوح ، ان اسهم حمدين علت جدا بين المصريين هنا في الكويت ، والاغرب بين الكويتيين انفسهم ، فهم يرون فيه عبد الناصر 2012 .. وعبد الناصر في الدول العربية له شعبية ومكانة لا يضاهيه فيها احد .. فهو نموذج امثل لفكرة القومية العربية وتوحيد الصف العربي ، واعرف الكثيرين من الجيل القديم اختاروا لأبنائهم اسم ناصر محبة في هذا الزعيم العربي الفذ الذي اردنا او لم نرد ، كان - قياسا بالسادات ومبارك - حاجة تانية خالص.
زميل لي شاب صغير لكنه واع جدا ، واسمه محمد عادل ويعمل في وكالة الانباء الكويتية " كونا " كان لتوه عائدا من القنصلية ، وكان سعيدا جدا بهذا التجمع والزحام المنظم في عملية الانتخابات الرئاسية وسألته : انتخبت مين يا بو حميد ؟ .. فرد دون تفكير : حمدين صباحي .. وكنت أعرف حماسه الشديد لعبد المنعم ابو الفتوح ، فسألته : وليه غيّرت رأيك؟ .. فقال : بصراحة كام موقف لابو الفتوح مؤخرا قلّل رصيده عندي .. لم أسعد أبدا بتلميحه بمرض حمدين صباحي حين سأله خالد صلاح عن صحة الرئيس .. شعرت بغصة وأدركت ان معركة الرئاسة وكرسي السلطة يُفقد الكثيرين عقولهم وانسانيتهم ، فيضربون فوق الحزام وتحت الحزام ، وكان ممكن أقبل هذا الكلام من أى مرشح الا ابو الفتوح .. ثم ان مناظرته مع عمرو موسى أظنه خسر فيها أكثر مما كسب ، وشعرت أن عمرو موسى يقف على أرض صلبة .. رجل دولة بجد وخبرة دولية طويلة أعطته ثقة عالية في نفسه ، بينما ابو الفتوح لم يكن على نفس القدر ، وكأنه يقف على رمال متحركة ، غير ثابت في مكانه يخشى الابتلاع. ومع ذلك ورغم اعجابي بعمرو موسى على حساب ابو الفتوح الا انني ارى ان الاثنان لعبا لصالح حمدين دون إرادة منهما بالطبع.
قلت له : افهم انك عدلت عن انتخاب ابو الفتوح نتيجة كذا وكذا ، لكن لماذا أعطيت صوتك لحمدين؟
فقال بصدق بالغ : بيني وبينك المرشحون ال 13 ليس فيهم من أتصوره رئيسا لمصر بعد الثورة ، لكن الكمال لله وحده ، وكل له ماله وعليه ماعليه ، وفي اعتقادي ان حمدين افضل " الوحشين".
وسألت محمد مسعود وهو مهندس كمبيوتر وقد انتخب أيضا حمدين : لماذا ؟ .. فقال : فقط لأنني أرى ان له موقفا محددا لا يحيد عنه ، ولا يلعب على كل الاطراف، رغم ان السياسة تستلزم هذا الامر ، خاصة في هذه المرحلة ، وهو محاولة كسب اكبر قاعدة عريضة من الناس .. غير ان الامر يحتاج حنكة وذكاء ، ولم أجد هذه الحنكة وهذا الذكاء الا في حمدين ومعه بنفس القدر خالد على.
فسألته : لماذا إذن حمدين وليس خالد علي ؟
أجاب : لو اعطيت صوتي لخالد علي فقد أهدرته .. فالرجل رغم صدقه البالغ ، الا ان رصيده في الشارع غير كاف ليتبوأ هذا المنصب الرفيع .. وأرى أنه يمكن من الآن ان يؤهل نفسه للمرحلة القادمة و " يهرس " السياسة اكثر ، واظنه لو فعل فسوف يعلو رصيده بشكل ملفت.
وجاءني زميل في الجريدة واسمه مسعد ، وهو " مباركي " ونطلق عليه فل من الفلول رغم صغر سنه ، قال لي : نفسي تكتب مقال عن عمرو موسى .. وتقول عنه انه رجل المرحلة والأنسب في هذه الفترة تحديدا .. فقلت له : انا لا أكتب إلا ما اريد ان اكتبه ويتفق مع قناعاتي ، ومع أنني أرى عمرو موسى فعلا ربما يكون الأنسب حاليا ، إلا أنني لا أريده ، فقط لشعوري اذا ما نجح ، فكأننا نعود من حيث بدأنا .. والطبع يغلب التطبع ، وراح أو جاء عمرو موسى ، كان من ضمن حاشية مبارك ولم يقف في وجهه وقفة صريحة تحسب له وتضيف لرصيده.
ورأيت اثناء وجودي أمام القنصلية رجلا يقربني في العمر وحماسه لحمدين صباحي فوق الوصف لدرجة انه كان يتنقل بين الصفوف ويحفّز الواقفين لانتخابه ، حتى ظننت انه " قابض " فقلت له : اعط صوتك لمن تريد ، لكن لا تُملي على أحد توجهك .. فقال : والله لا أريد شيئا ، ولست مدفوعا من أحد ، لكنني أرى حمدين هو الأجدر بالمنصب ، ومن فرط محبتي له ، أريد من الجميع ان يمنحوه أصواتهم.
فسألته : وليه حمدين بالذات؟ .. فقال : لأنه راجل وفلاح من طين الارض وترابها .. وبعدين ناصري حتى النخاع .. ولا أعتقد أن أحدا يزايد على عبد الناصر ، حتى وان اختلف معه ومع الكثير من سياساته ، لكنه في الأول والأخر كان زعيما عربيا .. وانت من جيلي وتدرك أننا أيام عبد الناصر ، كان لنا كدولة هيبة ، وكان لنا كمصريين قيمة في أى بلد تحط فيها اقدامنا ، اما في عهد المخلوع - الله يجحمه - فقد اضاع هيبتنا وحلت محلها " خيبتنا " ورخص سعرنا عند الغير وصرنا بلا قيمة .
ولفت نظري واحدا يتحدث مع زميله ويقول له : ابو الفتوح مين ومرسي مين .. دول عالم أونطجية .. مفيش أحسن من شفيق .. وانا حانتخبه .. فرد عليه زميله : انا عارفك وعاجنك وخابزك .. انت لا مؤاخذة " حمار " .. امبارح كنت مع عمر سليمان ، ولمّا اخذ صابونة وخلعوه ، دلوقتي تقوللي شفيق ، وقبل الاتنين كنت ولحد دلوقتي بتعيط على مبارك .. واللي زيك مينفعش ينتخب ، ولا يكون له حق نيل هذا الشرف في هذه المناسبة ..
فرد عليه دون غضب : أيوه .. انا كنت ولا زلت مع مبارك ، وشايف ان الناس ظلمته .. عشان كده انا حانتخب شفيق .. ثم وهو يضحك بغباء شديد : أهو حاجة من ريحة المرحوم!
ووجدت أسرة مصرية جميلة ومهذبة .. الزوج والزوجة في الخمسينيات ومعهم ابن وابنة والاربعة يريدون حمدين صباحي .. فسألت الزوجة المحترمة : لماذا حمدين ؟ فقالت : حاسه انه راجل ومش " ملاوع " ولا بتاع تلات ورقت .. وقال الزوج : ان اعشق عبد الناصر وحمدين هو ناصر الالفية الجديدة .. أما الابن وهو طالب جامعي فقال : كلامه اقنعني وشعرت بصدقه .. اما الفتاة فقالت : انا ناصرية رغم أنني لم ار ولم اعش عهد عبد الناصر ، الا انني من قراءاتي ونقاشاتي مع " بابا " احترمت هذا الرجل قبل ان احبه .. عشان كده حانتخب حمدين.
... ودخلت وأدليت بصوتي وخرجت .. فاستوقفي كثيرون ممن سألتهم وقالوا لي : انتخبت مين ؟ فقلت : واحد غير حمدين!