فى الحلقة الماضية استعرض د.محمد حبيب تفاصيل الحياة اليومية للإخوان داخل المعتقل، وكيف أن إدارة السجن سمحت لهم بتكوين فرق رياضية وتنظيم «دورى» بينهم، وأن خيرت الشاطر كان قائدا لفريق اسمه فريق «السعادة» لكرة القدم جمع فيه كل لاعبى الإخوان منخفضى المستوى ليفوز عليه الجميع فيجلب السعادة لهم لكنهم فوجئوا به يفوز على غالبية الفرق. وتطرق حبيب إلى أن الإخوان فى السجن كان لهم برنامج ثقافى يومى، وأن بعض الإخوان داخل السجن كانوا يقومون بإلقاء محاضرات تثقيفية، وأنه تم تكليف حبيب من قِبل بعض الإخوان بتدريس كتاب «مدخل إلى علم السياسة»، كما قام بتلخيص كتاب «شخصية مصر» لجمال حمدان، معتبرا السجن مدرسة تربوية عالية المستوى.. فيها يتهذب السلوك وتتشذب الأخلاق وتترقى الروح على عكس المعروف عن عالم السجون. مسرحيات الإخوان فى سجن طرة
بعد مرور عام تقريبا على صدور حكم المحكمة العسكرية، تم السماح لنا بتناول الإفطار فى رمضان معا، لكن داخل العنبر، وأن نصلى صلاة القيام معا. كان ذلك رائعا. كانت تأتينا أطعمة من الأهالى من كل مكان، وبكميات تفوق الخيال. كانت تجتمع فى الوجبة الواحدة لحوم وطيور من مختلف الأشكال والألوان، وأسماك مشوية ومقلية، بورى وبلطى. ناهيك بالفواكه والحلويات، الشامية وغير الشامية. كان الأهالى يتصورون أنه لا بد من تعويضنا عن فقد الحرية بهذه النوعيات من الأطعمة. ولا شك فى أن الأمهات والزوجات بذلن فى ذلك، وعبر الزيارات الأسبوعية جهودا جبارة فى السفر والتحضير، وحمل الأغراض، والوصول إلى السجن فى ظروف أقل ما يقال عنها إنها ظروف سيئة. لذلك فإن المعاناة التى كن يعانينها فى الحضور، فضلا عن تحمل مسؤوليات البيت والأولاد بكل مشكلاتهم وتبعاتهم أشد بكثير من معاناتنا، فجزاهن الله خير الجزاء على ما قدمن.
تم السماح لنا باستحضار كراسى ومناضد بلاستيكية، وبذلك ارتفعنا عن الأرض قدر نصف متر، وتم السماح أيضا بمراوح كهربائية، كان لها أبلغ الأثر داخل الزنازين، خصوصا فى أيام الصيف.
فى ليلة الجمعة من كل أسبوع كنا نقيم حفل سمر تُقدَّم فيه الأشعار، والأزجال، والأغانى، والمسرحيات، والمسابقات الثقافية والفنية. ومن خلال هذه الحفلات ظهرت مواهب وملكات غاية فى الروعة. كان الضحك يستغرقنا حتى نستلقى على أقفيتنا، وكان لذلك أثره على النفس والعقل والقلب والوجدان، إذ لا ينبغى أن يستغرقنا الهم. كان لا بد أن نعيش حياتنا ويومنا، فلا ندرى ما الذى يمكن أن يأتى به الغد. بهذه الروح يمكننا أن نثبت إلى آخر الزمان، وأن نقاوم مهما كانت التحديات. إن خصومنا يودون أن نفقد صبرنا ونستنزف طاقتنا، حتى نستسلم لضغوطهم وشروطهم، لكن هيهات هيهات، فالسجن يزيدنا نحن أصحاب الدعوة صلابة وقوة وتحديا. لقد علم الله ما فى قلوبنا فأنزل السكينة علينا، فهو الذى يمنحنا الصبر والثبات والجلد والثقة والطمأنينة والسكينة والرضا. يقول الحق جل وعلا فى شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن بايعوه فى بيعة الرضوان:
من مزايا الإخوان أنهم فى أى مكان يحلون فيه، حتى ولو كان سجنا، تمتد إليه أيديهم بالتحسين والتطوير والتجميل. فقد كانت المساحة الممتدة من باب سجن الملحق حتى العنبر، وكذا المساحة المحيطة بغرف الإدارة تبدو كأنها أحراش. سارع الإخوان حينما سمحت ظروف السجن إلى تعبيد هذه المساحة وتسويتها، وتقسيمها إلى أحواض تمت زراعتها بكل ألوان الورود الموسمية والدائمة، فضلا عن الخضراوات والفاكهة. كان فى مقدمة هؤلاء الأخ الدكتور محمد وهدان، المدرس المساعد بكلية زراعة الإسماعيلية آنذاك، والأخ الأستاذ أمين سعد -رحمه الله- نقيب المعلمين بمحافظة الشرقية. شارك بجهد فى البداية الأخ الدكتور إبراهيم الزعفرانى، ثم ما لبث أن توقف. وقد كان الأخ المهندس محمد عبد العزيز الصروى -رحمه الله- مهتما بزراعة النعناع، وكان إنتاجه جيدا ووفيرا، لدرجة أن الأهالى الزائرين كانوا يأخذون حصتهم معهم فى أثناء عودتهم. وقد راقنى هذا العمل للغاية، فنشطت له، وشجع على ذلك الأخ أمين سعد. فكنت أخرج معه فى الصباح الباكر لأساعد فى شق الجداول، وتنقية الحشائش، وزرع الشتلات، إلخ، ولم يمضِ وقت حتى أجدت العمل وأصبحت فيه من الخبراء، وتحملت مسؤوليته بالكامل، خصوصا بعد خروج الأخ أمين سعد -رحمه الله- من السجن فى منتصف يوليو عام 1998، وظللت أعمل حتى آخر يوم لى فى سجن الملحق قبل أن نرحل إلى سجن مزرعة طرة فى منتصف مايو عام 2000.
وقد أشاعت الزهور جوا طيبا ومريحا ومبهجا للإخوان السجناء، وللأهالى الزائرين، فضلا عن إدارة السجن. وقد كانت هناك زيارة عادية لبعض الضباط الكبار من مصلحة السجون لسجن الملحق ورأوا أحواض الزهور، فتصور أحدهم أنه من الممكن توريد الزهور إلى بعض الجهات كاستثمار اقتصادى، غير أن هذا التصور لم يُكتب له النجاح لحسن الحظ.
كان وقتى موزَّعا بين الزراعة، ومراجعة القرآن، والقراءة العادية، وترجمة بعض الكتب المتعلقة بالتخصص، والاستماع إلى إذاعة لندن، والصلاة، والطعام. وهكذا. كان البرنامج اليومى مشحونا، لدرجة أن مأمور السجن سألنى يوما: لماذا لا نراك؟ قلت: مشغول. فضحك وضرب كفا بكف. وقال: مشغول فى ماذا؟ فشرحت له خريطة الواجبات اليومية، فقال مستسلما: كان الله فى عونك. قلت: ليس لدينا وقت نقضيه فى فراغ. أنت وما ترتب على نفسك من الواجبات. ثم قلت: كان من وصايا الإمام البنا «الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون أخاك على الانتفاع بوقته، وإن كانت لك مهمة فأوجز فى قضائها».
فبعض الإخوان شغل نفسه بالحصول على ليسانس الحقوق أو الآداب والبعض الآخر استطاع أن يحصل على مجموعة من الدبلومات فى مجالات مختلفة. ومن هولاء الإخوة: الدكتور عصام العريان، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والمهندس خيرت الشاطر.
26- المجموعة الرابعة من الاعتقالات
فى 2 أبريل عام 1996 كانت قضية حزب الوسط. وكان من تم إلقاء القبض عليهم ستة عشر أخا، منهم الأساتذة: محمد مهدى عاكف، حسين جودة، رشاد بيومى، محمود أبو ريا، محمود العرينى، محمد بدوى، عبد الحميد الغزالى، مصطفى الغنيمى، جمال عبد الهادى، عصام حشيش، أبو العلا ماضى. تمت إحالة هؤلاء إلى محكمة عسكرية، حيث حصل ثمانية منهم على 3 سنوات، والثمانية الآخرون على البراءة. بعد صدور الحكم جاء الإخوان الذين حصلوا على أحكام إلى سجن الملحق.
تركت أنا والدكتور محمد عبد الغنى الزنزانة التى كنا فيها مع الأخ خيرت الشاطر إلى الأخوين محمد مهدى عاكف، وحسن جودة، وتم تسكين الحاج محمود أبو ريا ومصطفى الغنيمى مع الأخ طلعت الشناوى، والأخوين محمود العرينى، وعبد الحميد الغزالى مع الأخ المهندس عبد الوهاب شرف، والأخ محمد بدوى مع الأخوين عاشور وسليمان غانم، وجمال ماضى، تصور الأخ خيرت الشاطر أننى تركت الزنزانة لعدم توافق بيننا، لكننى أفهمته أنه نوع من الإيثار للأخوين عاكف وجودة على اعتبار أنه أقدر على القيام بأمرهما من أى أخ آخر، فضلا عن أن الزنزانة كانت إلى حد ما أحسن حالا من زنازين أخرى. صعدت إلى الدور الثانى، وسكنت مع الأخوين الدكتور سيد عبد الستار، والدكتور على عز الدين. مكثت معهما نحو ستة أشهر، ثم انتقلت إلى زنزانة الأخوين محمد فرج، ونبيل عزام، وبقيت معهما حتى خروج الأول فى 22 يناير 1998، والثانى فى منتصف يوليو عام 1998، وبعدها انتقلت إلى زنزانة الأخ الدكتور محمد سعد عليوة، حيث ظللت بها حتى منتصف مارس عام 1999، وقد خرج الدكتور عليوة قبلها فى 9 أكتوبر عام 1998 مع المجموعة الثالثة.
27- محنة الابنة نهى
السجن يمكن تحمله إذا كانت أمور الأهل والأولاد تسير فى إطارها الطبيعى. وغالبا ما يلطف الله تعالى بعباده السجناء، فهو سبحانه يعلم أن هؤلاء لا حول لهم ولا قوة، ولا يستطيعون -بحكم ما هم فيه- تقديم شىء لأهلهم أول أولادهم إذا أصابهم -لا قدَّر الله- مكروه. لكن أحيانا يحدث بعض النوازل أو الشدائد، وذلك لحكمة لا يعلمها إلا الله تعالى، فتضيف إلى الأخ ثقلا إلى ثقله، وحزنا إلى حزنه، ونسأل الله العفو والعافية فى الدنيا والآخرة.
فى زيارة الأهل والأولاد لى فى أحد الأعياد، أحسست أنهم فى حالة ارتباك. كأنهم يخفون شيئا. يريدون أن يتحدثوا فى أمر لكنهم يحجمون. ينظر بعضهم إلى بعض. فسألت: ماذا بكم؟ قالوا: لا شىء. قلت: هناك أمر تخفونه. فما هو؟ ومع الإلحاح، قالت الابنة دينا: نهى يا أبى. قلت: ماذا بها؟ فانخرطوا فى البكاء.
كانت الابنة نهى، وهى الثالثة فى الترتيب بعد إيمان ودينا، مصابة فى عينيها الاثنتين بما يسمى «القرنية المخروطية غير المنتظمة»، وقد تم اكتشاف هذا الأمر وهى طالبة فى السنة الثالثة الإعدادية. ذهبنا إلى أحد أطباء العيون فى القاهرة، فقال: تعالوا بعد أسبوع لإجراء عملية لها لزرع القرنية. انزعجنا. كان ذلك عام 1988. نصحنا بعض الأصدقاء بالذهاب إلى أحد أساتذة العيون بكلية طب قصر العينى. بعد الكشف قال الرجل: أنا لا أشجع على القيام بعملية ما دامت هناك وسيلة أخرى. قلنا: ما هى؟ قال: يمكن استعمال عدسات لاصقة، فأوصى بالذهاب إلى أحد الأساتذة المتخصصين فى ذلك. بدأنا مع هذا الأستاذ رحلة العدسات اللاصقة بكل ما فيها من معاناة وآلام.
ومرت مرحلة الدراسة الثانوية، لكن ما بين كل عام وآخر كنا نقوم -تبعا لتعليمات الطبيب- بتغيير العدسات اللاصقة نتيجة للتدهور المستمر فى القرنية المخروطية...
دخلت نهى كلية التربية جامعة أسيوط، واختارت قسم اللغة الإنجليزية. كانت معاناتها شديدة فى متابعة المحاضرات والدروس العملية، ومع ذلك ظلت صابرة ومحتملة.
فى حديث جرى بينى وبين أحد الإخوة الأطباء بالنقابة العامة بشأن الابنة نهى، قال: لدينا أحد الأساتذة الممتازين من الإخوان فى كلية طب طنطا يمكن أن يجرى لها عملية زرع قرنية، والمسألة بسيطة للغاية. اتصلنا بالرجل فرحَّب بذلك، وقال: إن المشكلة فى عدم وجود القرنية، وسأحاول الاتصال ببعض بنوك القرنيات لعلِّى أحصل على قرنية مناسبة. علمنا أيامها أن نحو مئة ألف مصرى يشكون من العمى بسبب عدم توافر القرنيات. وما زالت المشكلة قائمة حتى أيامنا هذه، وربما زاد العدد إلى أكثر من مئة وخمسين ألفا.
ظللت على اتصال بهذا الأستاذ لأشهر لعلَّ الله تعالى يأذن بالفرج، لكن طال الانتظار، فأن تجد قرنية مناسبة لابنة فى العشرين من عمرها من رابع المستحيلات، إذ لا بد أن تكون القرنية فى حالة جيدة تسمح بأن تبقى لعشرات السنين، ولو أن القرنية المطلوبة كانت لإنسان فى السبعين أو الستين من عمره لهان الأمر، ففى هذه الحالة يكفى أن تكون القرنية من 50 إلى 60٪ من حيث الجودة... وأخيرا عثرنا على ضالتنا، وكان ذلك فى شهر يوليو عام 1995. ذهبنا إلى طنطا، أنا والزوجة ونهى، وأجرينا العملية فى مستشفى أخينا، وكانت -والحمد لله- ناجحة. مكثنا يومين إلى أن اطمأننّا، ووجدنا تعاطفا كبيرا من الإخوان هناك. غادرنا طنطا إلى القاهرة، ومنها إلى أسيوط، وكان ذلك قبل إلقاء القبض علىّ بأسبوع.