تابع الدكتور محمد حبيب فى مذكراته أمس أسرار طلعة الإخوان فى برلمان 1987.. وقال إن الإخوان يرشحون الشخصيات الجماهيرية الدعوية التى تجلب أكبر عدد من الأصوات فى دوائرها بغض النظر عمِّا إذا كانت تصلح للعمل السياسى أم لا، وأن الإخوان فازوا ب36 مقعدا، لكن من حيث الأداء البرلمانى والرؤية السياسية فازوا بعشرة مقاعد فقط، أما مجلس شعب 2005 – 2010 فثمانية وثمانون نائبا.. لكن الفرد الفاعل والمؤثر لم يكن يتعدى خمسة عشر نائبا فقط. من الصعب تحول الخلاف السياسى إلى خصومة تجعل القابع على رأس السلطة يتخلص من مخالفيه بمحاكمتهم عسكريا 21 – المجموعة الثالثة من الاعتقالات فى أثناء المحاكمة العسكرية تم إلقاء القبض على المجموعة الثالثة فى 9 أكتوبر 1995، وعلى رأسهم كما قدمنا د.عبد المنعم أبو الفتوح، ود.محمود عزت، ود.محيى الزايط، ود.السيد عبد الستار، ود.أنور شحاتة، ود.محمود حسين. وعلى الفور صدر لهم قرار من الرئيس مبارك بإحالتهم إلى محكمة عسكرية عليا. وكانت المجموعتان الأولى والثانية فى قضية واحدة تتناوبان مع المجموعة الثالثة فى قضية أخرى خاصة بها فى حضور جلسات المحاكمة. كان العدد إجماليا 83 أخا.
22 – الأحكام فى 23 نوفمبر 1995 تم إحضار الجميع من سجن ملحق مزرعة طرة إلى المحكمة العسكرية فى منطقة الهايكستب. ظللنا بعربات الترحيل ساعات طويلة. لم يؤذن بالدخول من البوابة الخارجية إلا للأقرباء من الدرجة الأولى، ومع ذلك تم منعهم من الوصول إلى قاعة المحكمة، بل إنهم حوصروا إلى جوار البوابة الخارجية نفسها. أدخلت المجموعتان الأولى والثانية لكى تستمع إلى تلاوة الأحكام.
ألقى رئيس المحكمة بيانه بشأن الأحكام. كان الاتهام: أدار وآخرون على خلاف أحكام القانون جماعة الإخوان المسلمين الغرض منها الدعوة إلى تعطيل أحكام الدستور والقوانين (!)، وكانت المواد المطبقة 786 مكرر عقوبات، وكان الحكم وتاريخه: بجلسة 23/11/1995 حضوريا بمعاقبته بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات نظير ما نسب إليه. كان رئيس المحكمة يتلو الأسماء وقرين كل اسم الحكم الذى ناله. وبعد آخر كلمة، ترك مقعده سريعا وانطلق خارجا. لم يهتز الإخوان. تعالت هتافاتهم إلى عنان السماء. الله أكبر ولله الحمد. كانت الروح المعنوية عالية، والمشاعر فياضة، والإيمان واليقين يملآن الصدور.
عند البوابة الخارجية وقف الأخ الحبيب لاشين أبو شنب يتحدث بصوته الجهورى إلى الأخوات والأولاد. ليذكرهم بالله، والجهاد، والدعوة، وأن هذا هو سبيل المؤمنين. تكلم عن سيد المرسلين والأنبياء من قبله، وأن طريق الدعوة شاق وطويل، ووعر وصعب، لكنه طريق النجاة. فى الدنيا والآخرة. طريق العزة والسعادة. كان لكلماته أثر كبير فى النفوس. لكن كما يقال: لا يستشعر الشوق إلا من يكابده.
أخرجنا من المحكمة ووضعنا فى عربات الترحيلات، وأدخلت المجموعة الثالثة إلى المحكمة لكى تستمع هى الأخرى إلى الأحكام. وبعد أن انتهت المسرحية. انطلقت بنا عربات الترحيلات إلى السجن، لكن فى طريق غير الطريق المعتاد، ومن عجب أننا شاهدنا السيدات والبنات والأولاد يركضون خلفنا. هم يعلمون أنهم لن يستطيعوا اللحاق بنا. لكنهم يركضون. ويركضون. كانوا يريدون أن يشعروا بأنهم معنا بقلوبهم وعواطفهم ومشاعرهم. لم يؤثر فينا شىء قدر هذا المشهد. كأنه حفر فى قلوبنا أخاديد عميقة لا يمكن أن يمحوها الزمن.
كانت الأحكام فى القضيتين كالتالى: - خمس سنوات لكل من: د.محمد حبيب، وم.خيرت الشاطر، ود.محمود عزت، ود.عبد المنعم أبو الفتوح، ود.عصام العريان. - ثلاث سنوات ل56 أخا. - براءة للباقين. عدنا إلى سجن ملحق مزرعة طرة. أعطينا مهلة -لا أذكر كم من الأيام- كى نستحضر ملابس زرقاء. أثارت الأحكام الرأى العام. كما أثارت بالطبع الإخوان فى مصر وخارجها.
إنه ليس من المعقول أن يحاكم مدنيون أمام محاكم عسكرية، خصوصا أنه لم يثبت فى حقهم قيامهم بأى أعمال عنف. إن المحاكم العسكرية لا تتوافر فيها أى ضمانات للتقاضى، ولا يمكن الطعن عليها، فضلا عن مخالفتها الواضحة للدستور. إنه من الصعب أن نقبل تحول الخلاف السياسى فى الرأى إلى خصومة تودى بمن يقبع على رأس هرم السلطة بأن يتخلص من مخالفيه السياسيين بإحالتهم إلى محاكم عسكرية. إن ذلك ولا شك يمثل استبدادا وتعسفا فى استخدام السلطة. ثم إن الحكومة وهى تتقدم إلى مجلس الشعب للموافقة على مد العمل بقانون الطوارئ تؤكد أن هذا القانون لن يستخدم إلا فى حالتين فقط، هما: الإرهاب والمخدرات. وها هى تستخدم القانون فى غير الغرض الذى شُرع من أجله. ويتضح من اسم هذا القانون أنه قانون استثنائى، لا يطبق إلا لفترات قليلة محدودة، ربما لأسبوع أو لشهر، كما يحدث فى كل بلاد العالم. لكن أن يستمر تطبيق هذا القانون لمدة ثلاثين عاما فهذا معناه فى حده الأدنى أن هذه السلطة غير قادرة على إدارة دفة شؤون الحياة بشكل طبيعى وعادى، ويترتب على هذا ضرورة أن تدع هذه السلطة الأمر لمن هم أقدر منها على القيام بالمسؤولية.
كان الشباب، خصوصا طلاب الجامعات الأكثر استثارة للأحكام العسكرية التى صدرت فى حقنا. فانطلقت مظاهرات عارمة فى كل جامعات مصر تندد بهذه الأحكام، ونتيجة لذلك تم إلقاء القبض على نحو مئة منهم.
23 – الترحيل إلى سجن المزرعة فوجئنا ونحن فى ملحق مزرعة طرة بأوامر لترحيلنا من سجن الملحق إلى سجن المزرعة. لم نكن ندرى السبب. لكننا علمنا فى ما بعد بأن سجن الملحق كان مطلوبا إخلاؤه لاستقبال الطلاب المئة. أودعنا جميعا عنبر 3، حيث تم توزيعنا على كل الغرف.
بخلاف سجن الملحق، الغرف فى المزرعة واسعة نحو 18 فى 6 أمتار مربعة، عدا جزء صغير لدورتى مياه وأحواض ومكان لتسخين الطعام. حرصنا نحن الخمسة: د.محمد حبيب، وم.خيرت الشاطر، ود.محمود عزت، ود.عبد المنعم أبو الفتوح، ود. عصام العريان، أن نكون فى غرفة واحدة، إضافة إلى آخرين، لسهولة التشاور وتبادل وجهات النظر فى ما يتعلق بالقضية العسكرية من ناحية، وإدارة السجن من ناحية أخرى.
أجريت انتخابات مجلس الشعب فى 29 نوفمبر 1995، ولم يفز فيها من الإخوان المسلمين أحد سوى الأستاذ على فتح الباب، الذى نزل على أساس حزب العمل.
لم نقدم التماسا لرئيس الجمهورية، وتم التصديق على الحكم بتاريخ 5 ديسمبر 1995.
كان لدينا إحساس بأننا سنمضى مدة المحكومية كاملة فى سجن المزرعة. وفكر أخونا م.خيرت الشاطر بأن يقيم ستائر تحفظ خصوصية كل فرد منا. وعرض الأمر علينا، فوافقنا. تم استحضار مواسير وقمنا بتثبيتها فى الجدران والأرضية، وبذلك تحولت الغرفة الكبيرة إلى مجموعة من الوحدات الصغيرة 2 فى 2 متر، وأصبح لكل واحد مربعه أو «زنزانته» الخاصة به. فى الوقت ذاته تم الاتفاق مع ورشة سجن المزرعة لعمل مجموعة من الأسرة بعددنا، بدلا من النوم على الأرض، وبالفعل تم تصنيعها على عجل. وبدأنا نمارس حياتنا بشكل طبيعى.
فى أحد الأيام من شهر يناير جاءت مجموعة من ضباط مصلحة السجون ودخلت إلى الغرفة ورأت ما تم فيها. قال أحدهم: ما هذا؟ سجن خمس نجوم؟ عرفنا ساعتها أن مقامنا فى المزرعة لن يطول. وهكذا حياة السجون. لا ثبات فيها لشىء. اليوم هنا، وغدا هناك. اليوم فى راحة واستقرار نسبى. وغدا فى تعب وتوتر وقلق. ويبدو أنه أمر مقصود لذاته، خصوصا بالنسبة إلى السجناء السياسيين.
24 – العودة إلى سجن الملحق قبل شهر رمضان بيوم، أظنه كان موافقا ل18 يناير 1996، صدرت أوامر بأن نعد أغراضنا على وجه السرعة وفى أقل من ساعة كى ننقل إلى سجن الملحق مرة أخرى. وقد كان. أخذنا كل ما يمكن أخذه من ملابس، وأسرة، وستائر. لم نستطع بطبيعة الحال أن نأخذ معنا المواسير! قضينا ليلة ليلاء فى الملحق. تم التسكين، كل ثلاثة فى زنزانة. وقد اخترت أن أكون فى زنزانة مع الأخوين م.خيرت الشاطر ود.محمد عبد الغنى. وللعلم فإن قضية التسكين فى الزنازين تمثل مشكلة المشكلات فى السجون، حيث النفوس بطبيعتها تبحث عمن يأتلف أو تتصور أنه سيأتلف معها، ثم إنها تنفر أو تمل ممن حولها لأتفه الأسباب، ولله فى خلقه شؤون. إن الإنسان منا فى بيته ينام براحته، ويستيقظ براحته، يأكل ما يريد وبالكيفية التى يهواها، يغلق باب غرفته على نفسه فى أى وقت يشاء، ولا أحد يستطيع أن يقتحم عليه خلوته. بل إن الإنسان منا لا يقضى مع زوجته وأولاده وقتا يضاهى عُشر الوقت الذى يقضيه مع إخوانه فى الزنزانة، خصوصا إذا كانت مغلقة عليهم طوال الوقت. فى السجون المسألة مختلفة تماما، ويحتاج الأمر إلى:
1- طاقة نفسية وإيمانية عالية، بحيث يمكن أن تستوعب كل ما يصدر من إخوانك، سواء داخل الزنزانة أو خارجها، خصوصا أن السجن ضيق، والحياة فيه ضيقة، ضيق المكان، والزمان، والسجان، وقديما قالوا:
«السجن سجن ولو كان فى جنينة». 2- أن يتنازل الإنسان عن جزء من نفسه، أقصد مما اعتاده وألِفَه فى حياته، حتى يتواءم مع الآخرين، فلو أن كل أخ أراد أن يمارس حياته دون مراعاة لمشاعر أو طبائع من معه لأصبحت الحياة جحيما لا يطاق.
لقد كانت نفوس بعض الأصحاب تضيق من بعض التصرفات، وتراها غير لائقة أو غير مريحة، وتتمنى لو عاشت فى زنازين انفرادية، غير أن هذه النوعية من الحياة غاية فى الصعوبة، وتترك آثارا سلبية بعيدة المدى على صاحبها. إن الإنسان اجتماعى بطبعه، لا يستطيع أن ينفك عن الآخرين، وهو فى حاجة إليهم كما أنهم فى حاجة إليه. وقد كان الأستاذ العقاد -رحمه الله- يقيس القوة النفسية للفرد بمدى قدرته على الحياة بمفرده.
بعد وصولنا إلى سجن الملحق بأيام، وقبل أن نستقر بشكل كامل، جاءت فى الصباح «تجريدة تفتيش» كبيرة من مصلحة السجون، تتضمن ضباطا من مختلف الرتب وضباط الصف والجنود، إضافة إلى الكلاب البوليسية. أخرجنا من الزنازين حفاة، أوقفونا ووجوهنا إلى الحائط وأيدينا مرفوعة ومسندة إليها، كان الجنود حولنا بالأسلحة وأى شخص يتحرك أو يلوى عنقه ليرى ماذا يحدث يعاجله الجندى بضربة من مؤخرة «الديبشك». دخلوا الزنازين وجعلوا عاليها سافلها. أخذوا كل ما يمكن أخذه تحت دعوى ممنوعات. دخلت زنزانتنا فوجدت تلا من الملابس مكوما فى أرضيتها... ابتسمت دون أن أدرى، سخرية لما فعله القوم بنا. رآنى أحد الضباط فقال وهو يتميز من الغيظ: إنت بتضحك؟ قلت: ولماذا لا أضحك، أم هو موت وخراب ديار؟! كان واضحا أنها مسألة تكدير. شدة فى البداية. حتى لا نتصور أن السجن راحة واستقرار.
كنا نتناول طعام الإفطار فى رمضان ونصلى القيام فى الزنازين.
فى أول أيام عيد الفطر، جاء الأهل والأولاد للزيارة. وقفوا على باب السجن طويلا، ومع ذلك لم يسمح لهم بالدخول. سمح فقط بدخول الملابس والأكل. كان موقفا سيئا.