إبراهيم عيسى هب سبعة وعشرون مليونا من المصريين إلى صناديق انتخابات مجلس الشعب، وخمسة وسبعون فى المئة منهم اختاروا التيار الإسلامى بإخوانه وسلفييه، لماذا إذن لم يتوقف الشعب عن الغليان ولم يتراجع الانفلات الأمنى إطلاقا؟ بل العكس! نحن نرى كل يوم عشرات المظاهرات العمالية والفئوية والإضرابات والاعتصامات بشكل يفوق أى قدرة على المتابعة، وهى تنتشر جغرافيا فى كل الأماكن والمدن والأقاليم، وتتنوع بين كل الفئات من أطباء إلى عمال ومن سائقين إلى موظفين ومن فلاحين إلى خريجى جامعات، ومن معاشات إلى حاملى ماجستير ودكتوراه. ثم كذلك لم يتراجع الانفلات الأمنى من سرقات علنية وجماعية وحوادث خطف وجرائم سطو وخناقات بالرصاص وبلطجة فى كل مكان، وهناك كذلك على المستوى غير الجنائى وبين جمهور الشعب العادى فإن الفوضى فى الشوارع تتسع وتزيد عن حدها، ويكفى مثلا أنه من المستحيل أن ترى شارعا الآن وقد خلا ممن يسيرون بسياراتهم عكس الاتجاه! دعونى أذكّركم فقط بالمسخرة اللطيفة التى رددها بعض المسؤولين عن إدارة البلاد، وطنطنت بها قنوات التليفزيون الحكومية والخاصة المنافقة، حين لم تظهر أى أمارة للاستجابة لدعوة الإضراب التى أطلقها بعض الشباب فى 11 فبراير الماضى، وكيف خرج علينا مأجورو الإعلام فى قنوات الفلول والذيول مهللين بأن الشعب اختار الإنتاج وانحاز إلى العمل، ما رأيهم الآن ولا يوجد قطاع فى مصر إلا وتظهر فيه إضرابات واعتصامات واحتجاجات؟ لكن السؤال يبقى واحدا واضحا: لماذا لم يشعر الشعب الذى انتخب الإخوان بالأمل بعد هذا النجاح المدوى، فيهدأ الناس متأكدين أن الإخوان سوف يستجيبون لمطالبهم ويغيرون حياتهم فى الأجور والبطالة والسكن وظروف المعيشة بناء على هذه الثقة الممنوحة لهم؟ لماذا لم يهدأ الشعب بعد فوز بتوع ربنا، الذى أقبل على صناديق البرلمان وأعطاهم صوته مطمئنا لقدراتهم فى أن ينقلوا البلد إلى الأفضل؟! الطبيعى والمنطقى إذن أن الشعب بعد الانتخابات البرلمانية سوف يجلس مطمئنا ومتطلعا ومتابعا تحقيق التيار الفائز بالأغلبية لوعوده وإنجازاته! لكن شيئا من هذا لم يحدث إطلاقا. رغم فوز التيار الإسلامى ووجوده فى البرلمان كالأسد الغضنفر، فإن الناس ما زالت متضايقة ومخنوقة ومتوترة وفى حالة إضرابات دائمة واعتصامات مستمرة! فالناس لا تزال على توترها، كأنْ لا انتخابات جرت ولا إسلاميون كسبوا، هل يا تُرى لأن الحكومة لا تزال فى يد آخرين؟! احتمال وارد جدا. لكن يبقى أن التيار الإسلامى الكسبان هو المسؤول عن استرداد حقوق الناس من هذه الحكومة، فلماذا لا يعوّل الشعب على أن البرلمان سوف يحصل على حقه من حكومته؟ لكن الناس لا تفعل ذلك بل العكس، تقف أمام البرلمان فى كل جلسة متظاهرة محتجة متهمة البرلمان نفسه! ربما لم يشعر الشعب بالرضا على أداء البرلمان، وقد تابع جلساته فوجد كأنه سوق غلال لا ينتهى فيها أى شىء إلى أى نتيجة، ولكنها ثرثرة عصبية ذات عروق نافخة دون حل ولا ربط ولا خطوة للأمام (جايز للوراء!)، ومن ثم لجأ الناس إلى ما اعتادوا عليه فى عام سبق وهو التظاهر المحتج والعصبى! احتمال ممكن! لكن لو الإخوان مسكوا الحكومة، هل تعتقد أن الناس سوف تتوقف عن الاحتجاجات والإضرابات والمطالبات مثلا؟ كل الاحتمالات واردة، لكن النتيجة أن نجاح الإخوان والسلفيين لم ينجز أى تغيير فى الحالة النفسية والعملية لدى الشعب الذى انتخبهم باكتساح! فالأمر كما أتصوره أن الشعب انتخب الإخوان والسلفيين دون أن يربط إطلاقا بين أنه انتخبهم وضرورة أن يغيروا حياته إلى الأفضل! أشك كثيرا جدا أن الثمانية عشر مليون ناخب الذين صوتوا للإخوان والسلفيين، وربما نصفهم تقريبا الذى سيصوت للمرشح الإسلامى والسلفى فى انتخابات الرئاسة، يعتقد أن تصويته لبتوع ربنا يعنى أن هؤلاء حين نجاحهم مُطالَبون بالعمل لأجل المواطن وتغيير شكل حياته، هو ينتخبهم دون أن يحمّلهم أى مسؤولية من أى نوع! هل تجدها صعبة على الاستيعاب؟ ربما.. لكنك من الصعب جدا، بل من المستحيل تقريبا، أن تسمع متظاهرا من سائقى النقل أو أطباء التكليف أو عمال مصنع مضربين، يلقى باللوم على الإسلاميين الذين فازوا ولم يفعلوا له شيئا! أتحداك تماما لو وجدت شخصا واحدا من المحتجين يقول كلمة سلبية تحمّل شيئا من المسؤولية على الإسلاميين الذين انتخبهم، فلم يقفوا جنبه أو يدافعوا عنه أو يضغطوا على الحكومة لانتزاع حقه! لا يربط المصريون للغرابة بين نجاح الإخوان والسلفيين، ومسؤوليتهم عما يحصل فى البلد! هذا بالقطع عكس ما يردده الملايين من جملة كريهة يتفتف بها الجميع كلما وجدوا شيئا لا يعجبهم فيرمون المسؤولية على الثورة، ويقولون «آدى اللى خدناه من الثورة»! يبدو أن جدتى، الله يرحمها، كانت خبيرة استراتيجية، فهى لم تتوقف أبدا عن تذكيرى بأن «حبيبك يبلع لك الزلط»!