في عام 56 كان عمري 3 سنوات .. وحصل العدوان الثلاثي على مصر وكانت بور سعيد تحديدا تتصدر المشهد البطولي .. وقتها طبعا لم أكن أدرك شيئا مما يحدث ، غير أني بوداعة الأطفال حينذاك كنت أعشق - ولا زلت - اغنية شادية : امانة عليك امانة يا مسافر بور سعيد .. امانة عليك امانة .. لتبوس لي كل ايد .. حاربت في بور سعيد. كنت " رايح جي " أرددها ، وأمي تضحك .. ولما كبرت كانت - رحمها الله - تذكرني بها .. وحين تراني أدندنها تقول لي : اشمعنى الأغنية دي بالذات اللي مش عايزه تطلع من دماغك ؟ وكنت أرد وقد وعيت وكبرت : لأنها عفوية وصادقة إلى أبعد حد وتؤرخ لبطولة أهل بورسعيد " ستات ورجالة " حين يدافعون عن تراب أرضهم ووطنهم: سلم على كل شارع.. دافع عنه شبابه وهات لي وانت راجع.. شوية من ترابه تراب ارض الجدود.. وفيه دم الشهيد **** الارض الغالية بوسها.. دي الدنيا بتحكي عنها جه الغريب يدوسها.. الكل قام يصونها بقت ارض البطولة.. والعزة والرجولة امانة عليك امانة.. لتبوسلي كل ايد لتبوس لي كل ايد.. حاربت في بورسعيد هذه هي بور سعيد ، وهؤلاء هم أهلها وأبطالها .. فهل يصدّق عاقل أن يتحول البطل بسبب الكرة إلى خسيس.. إلى وحش ؟ .. إلى مصاص دماء .. إلى كلب وواطي .. يقبض ويقتل؟ استحالة.. استحالة.. لذلك خرجت بور سعيد عن بكرة أبيها ترفع شعارا : دي مؤامرة دنيئة .. بور سعيد بريئة “.. وأنا وغيري ملايين يصدقون صدق مشاعر أهالي بور سعيد .. هذه المدينة الرائعة التي أراد لها الجبناء أن تتلوث بالدماء .. بغدر وخسة ونذالة لم أر لها مثيلا. أنا لا أدافع عن أهل بور سعيد.. فليسوا في موقع اتهام .. ولست من أبناء بور سعيد، ولا أمت لهم بصلة، غير أني - من زمان - أعشق هذه المدينة التي عشقت وأنا طفل أغنية شادية عنها، فباتت في قلبي وعقلي وخيالي وذكرياتي .. بلد البطولة والعزة والرجولة. حتى أنني حين كنت ضابطا احتياطيا في الجيش، كان اللواء الذي أخدم فيه بالقصاصين " تبعد عن بور سعيد تقريبا 130 كم “.. وكنت ومعي صديق ، نتحيّن الفرصة لنذهب إليها في الصباح ونعود في المساء ، ونقضي هناك يوما من أبدع ما يكون ، خاصة لو كان هناك ماتش كرة بين المصري والزمالك .. وكنت وصديقي زملكاوية ، وكنا نجلس على القهوة لنرى المباراة في تليفزيون جديد بالألوان قبل أن يغزو هذا الملون مصر كلها .. وكنا نجلس مع جمهور المصري .. الكرسي جنب الكرسي .. ولو أحرز الزمالك هدفا نقوم ونهيص ، انا وزميلي طبعا ، دون أن نرى ولو مجرد عتاب في عيون البورسعيدية .. وكان بعضهم يمزح معنا بلهجته الجميلة : لسه بدري .. الماتش ماخلص مسعد نور حيتعادل دلوقتي. وطبعا لو أنني أهلاوي ، والمباراة بين الأهلي والمصري، ما كنت أجرؤ على الفرجة مع جمهور بور سعيد في القهوة .. فقد كنت أدرك من زمان أن البورسعيدية لا يحبون الأهلي ، لذلك حماسهم يكون رهيبا إذا كان الأهلي هو الخصم ، أما الزمالك فلا يفرق معهم - لو بيلاعب المصري - انه يغلب او يتغلب .. طبعا يتمنون أن المصري يفوز لكن لو اتغلب مفيش مشكلة .. الزمالك حبيبنا. عادي .. مثلما نرى جمهور الإسكندرية يحب الاهلي جدا ، وبينه وبين الزمالك حساسية لا أعرف لها سببا منطقيا سوي الميل والقلب وما يريد. لذلك ، وسامحوني إن استطردت كثيرا في الحكاوي ، بما يُوحي ربما أنني غير معني بما حدث في بور سعيد منذ ايام .. بل بالعكس فالحزن في قلبي والألم في نفسي رهيب من هذه المجزرة البشعة القذرة التي وقعت هناك.. وقد كنت أتابع المباراة وكمشجع زملكاوي كنت فرحا بالنتيجة والعرض الرائع لفريق المصري .. وما أن انتهت المباراة ورأيت ما رآه العالم ، لم استوعب الأمر في البداية .. المصري غلب .. طب الجمهور بيعمل كده ليه .. أمال لو كان اتغلب كان عمل إيه ؟ .. كل ده قبل ان تأتينا الأخبار السودا ونعرف أن هناك اتنين ماتوا ، واسمع صرخات احمد ناجي مدرب حراس المرمى وبركات وجدو واحمد فتحي : الناس بتموت قدامنا .. احنا مش فاهمين حاجة .. ومذيع غبي يسأل : المهم لعيبة الأهلي بخير .. فيرد عليه ناجي صارخا مغلقا السكة في وجهه : وإيه الفرق بين اللعيبة والجمهور .. ماهم كلهم مصريين وبني ادمين. وتتضح أركان اللعبة القذرة وتنكشف المؤامرة الدنيئة .. غير أن قلة قليلة تُلقي لا تزال باللوم والعتاب على جمهور بور سعيد.. فالمشهد الذي رأيناه كلنا بعد أن أطلق الحكم صافرة النهاية .. ناس بالآلاف نزلت أرض الملعب ، غير أن الكثيرين منهم نزلوا يحتفلون بفريقهم - وهذا خطأ لا أبرره - ، لكن الكلاب الأخريين الذين توجهوا مباشرة إلى مدرج جمهور الأهلي لينفذوا مخططهم الذي أخذوا ثمنه مقدما ، أكاد اقسم بالله لا صلة لهم بجمهور بور سعيد .. فمن بين الشهداء والمصابين بور سعيدين.. وعلى رأى أحد مشجعي المصري وهو صادق : احنا نزلق بالطوب ممكن .. نشتم جايز.. لكن نقتل؟ لأ .. مش احنا اللي نلوث أرضنا بدماء طاهرة .. أيا كانوا، فهم ضيوف.. وبمجرد ان ينتهى الماتش بالسلامة ، ان كنا فزنا .. وبالسلامة برضه لو اتغلبنا ، مع اعترافي ببعض التجاوزات التي تفرضها العصبية على البعض .. لكن قتل ودم لا نعرفه إلا مع الأعداء .. ندهسه وناكله بسناننا ، لكن ولاد بلدنا .. استحالة. لذلك .. لابد من رفع الظلم عن الشعب البورسعيدي بإظهار المتورطين الحقيقين في هذه المجزرة .. وخلاص " باينة " للأعمى .. المجرم أهو .. امسكوه وافرموه واعدموه – بعد ما تضربوه بالجزمة القديمة – عايزين إيه تاني ؟ .. إلا اذا كنتم عارفين باللي كان حيحصل وعلى قلبكم زي العسل .. في الحالة دي صدقوني وكلامي موجه للكل - من الى - لو ضاقت بينا ونفذ صبرنا حتلاقوا مليونية عن حق أمام المركز الطبي العالمي تجرجر مبارك في الشارع وتلقي به بنفسها في السجن ، والمليونية اللي بعدها أمام طره لتنفيذ حكم القصاص العادل باليد .. مش بقانونكم الأعرج الذي صار مضحكة أمام العالم ومسرحية هزلية من ألف فصل ، لم ولن تنتهي إلا بدماء المزيد من الشهداء. الحقوا نفسكم.. والله والله .الأمر - جد - خطير .. واللي جي اخطر مما تظنون .. اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.