أتاني صاحبي وقد ظهرت على وجهه علامات الإحباط والحزن وما يشبه اليأس، متوجهًا إليَّ بالسؤال الأسطوري الذي أتلقاه من كل أحدٍ تقريبًا: ما الحل لِما نحن فيه؟ ما لا يعرفه صاحبي هو أني كنت أمر بالحالة نفسها حينما جاءني، لكن كان عليَّ أن أتظاهر بعكس ذلك وأن أحاول الإجابة الفعلية عن سؤاله، لأنه اعتاد مني أن أبثَّ فيه روح الأمل والإصرار، خاصةً أني كنت من أصابه بدايةً بفيروس الثورة العارم. فرسمت على وجهي ابتسامة عريضة وإن كانت مصطنعة، وبادرت بالقول: لماذا حالة الإحباط العامة هذه؟ هل ظننت أن الطريق سيكون سهلاً ميسورا؟ أنت تناضل ضد نظامٍ أرسى قواعده الأتراك العثمانيون ثم الإنجليز ثم العسكر، فاصبر. حسنًا، نقطة ومن أول السطر، والعاقل هو من يتعلم من الدروس، ومن أخطائه وأخطاء غيره. وأنت تعلم أني لست من الثوار (العقلانيين) الذين يستمتعون بالتنظير ويكتفون به، وأني أجد متعة بالغةً في إلقاء الحجارة والتعرض للغاز والخرطوش والرصاص، لأن لديَّ مشكلة مزمنة مؤسفة مع الشرطة والجيش وكلِّ من يرتدي زيًّا رسميًّا، كما أجد حساسيةً شديدةً ممن يطلب مني إعادة النظر فيما أفعله والبحث عن بدائل أخرى للعمل الثوري المباشر، ولكن هذا ليس ظاهرةً صحية، وأخشى أن علينا بالفعل مراجعة بعض الأمور. قلت له: يجب أن ندرك أولاً أن المعركة في أساسها معركة وعيٍ وتوعية، وأن العمل الجماهيري المتواصل ضرورة لا مناص منها، وحملة مثل (كاذبون) تؤتي بثمارٍ أفضل بكثيرٍ من أطنان الحجارة التي تُلقى عند وزارة الداخلية، ولا غرابة في أن الحملة توقفت في غمرة الأحداث وتصاعدها، لأن هذا هدفٌ لهم في حد ذاته. بل يجب أن يقوم الأفراد أنفسهم بدور التوعية في محيطهم ودائرتهم وإن كانت صغيرة. وثانيًا فإنه لا يمكننا الاستمرار في نقد القوى السياسية المختلفة كالإخوان على سبيل المثال من دون أن نفعل شيئًا في المقابل، وأن يظلَّ أحدنا يردد إن الإخوان قد أعطوا أنفسهم أكبر من حجمهم، وأنهم يحسبون أنهم قوة هائلةً وهم ليسوا كذلك لكنهم الفصيل المنظَّم الوحيد، وأن الناس انتخبوهم لهذا السبب أو هربًا من فلول الوطني أو من السلفيين أو من غيرهم، أو لاقترابهم من العسكر وصفقةٍ ما بين الطرفين. حسنًا، قد يكون هذا صحيحًا أو بعضه، ولكنهم منظمون وأنت لست كذلك، فلماذا لا تنظِّم نفسك محاولاً ألا تقع في الأخطاء نفسها التي وقعوا فيها؟ ثم إنك لم تستطع أن تقدم مرشحًا مقبولاً في مواجهة مرشح الوطني على سبيل المثال وهم استطاعوا ذلك وخلَّصونا من هؤلاء بالفعل، ومع ذلك فإني ألومهم على ذلك ولا أعترف بشرعيتهم مع أنها موجودة، ومع أن هذا تقصيرٌ مني في الأساس بأني لم أقدِّم البديل المعقول. ولا أعني بذلك أن يتحول شباب الثورة إلى حزبٍ من الأحزاب، لأني أرفض ذلك بل أشكِّك في كلِّ من ينادي بذلك، لأن مهمة الثورة من وجهة نظري أن تصنع نظامًا جديدًا لا أن تصبح جزءًا من هذا النظام أو أي نظامٍ كان، ولكن هذا لا يعني الابتعاد عن العمل السياسي الذي يجمع المنتمين إلى مبادئ الثورة الأساسية، لأن العمل السياسي لا ينبغي أن ينفصل عن الفعل الثوري بحالٍ من الأحوال، من دون أن يكون ذلك عبر حزبٍ من الأحزاب القائمة الموجودة، على أن يكون هذا العمل السياسي في صورة فعلٍ ومبادرةٍ لا مجرد ردود أفعال وتتبع عثرات الآخرين والاشتباك معهك بسببها، لأنهم سيتعثرون كثيرًا، وحين أشتبك معهم فأنا بذلك أصرف الأنظار عن عثراتهم إلى الشجار الحاصل بيننا، فأقدم لهم بذلك خدمةً مجانيةً نفيسة. وثالثًا فإنه يجب علينا مواصلة (حرب الأماكن) في كل مؤسسةٍ من المؤسسات على حدة، بالعمل على تطهيرها من الفساد والمفسدين، وإعادة هيكلتها ومراجعة أنظمتها ولوائحها الإدارية بما يضمن العدالة والكرامة للعاملين فيها، لأن هذا من صلب الثورة وجوهرها، وليس من باب المطالب الفئوية، ذلك المصطلح المزعوم الذي استعمل كثيرًا للحدِّ من مكتسبات الثورة وتوسعها. والأمر الرابع هو أننا يجب أن لا نعوِّل بصورةٍ كبيرة على أشياء بعينها على أنها ستُحدث التغيير المنشود، كالعصيان المدني الذي كثر الحديث عنه، والانتخابات الرئاسية المقبلة أيضًا. ولا يعني هذا أن نمتنع عن المشاركة في هذه الأشياء، ولكن لا نعوِّل عليها بشكلٍ كاملٍ بحيث يصيبنا الإحباط إن لم يُحدث الأثر الذي نريده، لأن الطريق طويلٌ وشاق، ويحتِّم علينا الصبر والكرّ والفرّ، وقد نتراجع في جولةٍ ثم نصول ونتقدم في أخرى وهكذا. إن شحنات الثورة المُهدرة حينما لا تجد سبيلاً إلى النور تتجلى في صورة غضب عارمٍ وحنق بالغ؛ أليس هذا ما جرى لنا جميعًا؟ شُحنت بطارياتنا بتيارٍ شديد القوة أيام الثورة، حتى إذا مرت الأيام وعادت الأمور إلى طبيعتها تشبثنا بثورتنا في البداية، مكتفين باستجداء الأيام كيلا تعود إلى ما كانت عليه، ثم استسلمنا لها شيئًا فشيئًا من جراء التعب والإرهاق وما هو أكثر حتى أخذنا في النسيان، ونسينا في خضم ذلك أن التيار لا يزال ساريًا في أعماقنا، ولكن علينا فقط أن نُحسن استغلاله وتوجيهه.