من بين مئات الاتصالات مع أبناء بورسعيد تشكو أو تعتذر أو تلفت النظر إلى حقيقة ما حدث، من بين رسائل كثيرة تحمل الكلام نفسه، طلبت من الصديقة فيروز كراوية أن تكتب بنفسها من قلب ما تعيشه المدينة عما حدث ويحدث، وهذه المساحة مفتوحة أمام من يمتلك شهادات أخرى أو من يمتلك ردا. رحم الله شهداءنا فى كل زمان ومكان. تقول فيروز كراوية: أنا بورسعيدية وأهلاوية، ولا أعرف واللهِ أيهما أحب أكثر، ولم يخطر على بالى أن أكتب يوما دفاعا عن هويتى البورسعيدية لأنى أساسا لا أتحمس للتعميم ولا التعصب الأعمى إلا لبلدنا كلنا، ولا أرى ميزة تخص مدينة وتختفى من مدينة أخرى. ولكنى وجدت نفسى فى حزن شديد وأنا أسير فى المسيرة أمام النادى الأهلى وأسمع هتاف الشوارع: «الله عليك يا سيدى.. (...) البورسعيدى». لا يوجد دفاع عن جريمة ولا عن مجرمين، ولا يوجد إلا العار الذى يحمله كل أهل بورسعيد الآن ويطوفون الشوارع بالدموع يبحثون عن قتلة لتسليمهم إلى عدالة غير موجودة. جهاز الشرطة «الشريف» غائب عن بورسعيد منذ فبراير، بعد أن أدى دوره المعروف فى اغتيال شبابها يوم 28 يناير. من بعدها تدور على المدينة دوامات من السلب والنهب والتحرش بالفتيات وخطف كبار السن مقابل فدية، الناس يبتلعون حياة مرة، غير آمنة. عصابات جريمة منظمة تقطن جنوبالمدينة، لا يتعرض لها أحد. وأقطاب النظام (هل أقول السابق؟) ببلطجيتهم يتحركون وفق أجندة أجهزة أمنية سرية. ينشرون الشائعات حول من سموهم «القبّيضة» من ثوار بورسعيد، يضربونهم إذا خرجوا للتظاهر واعتصام المنشية فى يوليو، ويفضون الناس من حولهم، ويغتالونهم معنويا. أهل بورسعيد الذين اصطفوا ليمنعوا دخول مدير أمن الإسكندرية الذى قُتل فى عهده المرحوم خالد سعيد، ونقلته الداخلية بعد الثورة فى حركة الترقيات و«التطهير» إلى بورسعيد. مُنع من الدخول قبل أن يأتى أصلا، وتعاقب على المدينة مديرو أمن لم يفعلوا لها شيئا ولكن الناس ابتلعت هذا أيضا، حتى جاء 20 يناير ليتغير مدير الأمن فجأة ويأتى هذا الذى أشرف على المذبحة فى الاستاد. المناخ مهيّأ لجريمة بالطبع، العصابات جاهزة، وكراهية تاريخية متبادَلة بين جمهور الأهلى والمصرى تصلح شماعة للسذج. أوتوبيسات من خارج بورسعيد تأتى برجال يلبسون ملابس ألتراس المصرى، ويدخلون الاستاد بعد بداية المباراة. يبدؤون فورا بعد نهاية المباراة فى الصراخ فى الجماهير «روحوا طلّعوا (...)، بيقولوا عليكم مش رجالة»، بينما يفتح الأمن البوابات الحديدية أمامهم، وانقطع التيار الكهربائى دون تبرير. يختلط الحابل بالنابل، ولكن مقتل أكثر من سبعين فى ساعة بأساليب محترفة ككسر الرقبة والخنق بالكوفية والإلقاء من أعلى المدرجات، لا يبدو تماما كشجار بين متعصبى كرة قدم. كما لا يبدو لحام بوابات خروج جماهير الأهلى، المفترض أن تكون مفتوحة طوال المباراة، إلا تحضيرا لمذبحة. إن هؤلاء الذين طافوا الشوارع بعد المباراة يحاولون إنقاذ من تبقى من جمهور الأهلى، والنساء التى باتت بالمستشفيات تسعف المصابين، وطوابير التبرع بالدم، هم أيضا من أبناء بورسعيد. وهؤلاء الذين تعاهدوا على البحث عن كل من فعلها وأمسكوا بثلاثة منهم ليحصلوا منهم على اعترافات، هم نفسهم من عاشوا سنة كاملة تحت تهديد أسلحة مادية ومعنوية دون شرطة تحميهم. لقد قرروا أن يفعلوا ما بوسعهم لتطهير بلدهم من العار الذى يراد أن يلتصق بها. والخروج من المأزق يبدو سهلا فى نظر من يطالبون أن يُضرب الحصار على المدينة، فتمتنع عربات الخضار عن دخولها ثلاثة أيام، وتعلن أرقام وحروف سيارات بورسعيد على الإنترنت ليحطمها من يراها، ويطالب الشيخ إكرامى الورع بأن «هذه المدينة لازم تتخنق، ولو خرج البورسعيدية بره بلدهم هناخد القصاص بإيدينا»، بينما يخرج علينا رئيس النادى الأهلى يشكر العسكر على سرعة تحركهم (بعد ثلاث ساعات من القتل). الخروج من المأزق على جثة بورسعيد يبدو أسهل كثيرا من التحقيق ومن العقاب ومن القصاص. ويبدو بسيطا أن نسأل: «هو الشعب سايبهم ليه؟ الشعب لازم يتحرك»، كما يحرض رأس الدولة. نقرأ فى التاريخ عن «المدن المعاقَبة» التى يصيبها كره الحاكم ونظامه، كحماة فى سوريا. مدن عُرف عنها مزاجها المناوئ للسلطة واستبدادها، تأتى بنواب معارضين فى الانتخابات رغم أنف المحافظ اللواء الذى يصرفونه دائما لحكمها بالحديد والنار. ومنذ محاولة اغتيال مبارك فى بورسعيد، كان هناك قرار غير معلن بالتكدير، تقلصت بعده المنطقة الحرة التى يعيش عليها أهل المدينة، ورموا آلاف الشباب فى أحضان العوز والبطالة والجريمة. يأتى اليوم والبعض يقول الآن فى وجه أبناء بورسعيد «ولاد الكلب اللى سابوا بلدهم تنضرب فى التهجير»، نعم، فالفاشية تبدأ بنشر الإشاعات ولا تنتهى بالدماء وحروب المدن. لقد جربتم فينا الطائفية، وخطابات العمالة والتخوين والتكفير، ولم يبقَ سبب لقتل المصريين بعضهم بعضا إلا أن يكرهوا بورسعيد ثم الإسكندرية ثم أسوان...