كنتُ أريد أن أخصص هذا المقال للدعوة للنزول يوم 25 يناير، لكنني وجدتُ الأمر لا يحتاج إلى دعوة، ثم حدثت لي حادثة بسيطة وعجيبة، اختارت أمي (لسبب لا أعرفه) أن تلف بعض أدواتها في ورقة من جريدة الأهرام، لمحتُ الورقة فشدني هذا العنوان: "هالة المحظورة سقطت في السنوات الخمس الماضية"، انتبهتُ أولا إلى أنني لم أعد أسمع هذه الكلمة "المحظورة"، فبحثت عن التاريخ فإذا هو 26 نوفمبر 2010، وإذا بالصفحة كلها مخصصة لانتخابات مجلس الشعب المزورة، وإذا بها تتطاول على الإخوان تطاولا شديدا عوّدنا عليه رجال الحزب الوطني. كانت الصفحة مخصصة للدعاية الرخيصة لمرشحي الوطني ضد الإخوان. خذ مثلا هذه الفقرة التي عنوانها: "عامر يتجه لحسم مقعده مبكرا بالقناطر الخيرية" والتي تبدأ بالبلطجة: "تعرض ناصر الحافي مرشح المحظورة بالقناطر الخيرية لمواقف مخجلة من جانب الأهالي الذين كانوا يطاردونه ويرفضون عقده اللقاءات بهم، ومزقوا اللافتات التي وضعها في العديد من القرى، واتهم الأهالي مرشح الجماعة بأنه يحاول سرقة الخدمات التي يقدمها مرشح الوطني منصور عامر... ويبدو أن عامر في طريقه لحسم مقعده من الجولة الأولى في ظل حالة التوافق والإجماع عليه من أهالي القناطر الخيرية..." طبعا لا أشك في أن البلطجية تعرضوا للحافي ومزقوا دعايته. دفعني ذلك للتساؤل عن أداء الحافي في الانتخابات الأخيرة، فعرفت أنه فاز عن الحرية والعدالة ب 380 ألف صوت. واضح أن "الأهالي" وثقوا به فجأة بعد أن كانوا يمزقزن لافتاته ويعتدون عليه! وحين طويت الصفحة وجدت في ظهرها مقال السيد سرايا ينافق مبارك بعد عودته من جولة خليجية رآها سرايا بنفعال شديد مكسبا استراتيجيا كبيرا لمصر، ثم تطاول على "المحظورة" أيضا، كأن جريدة الأهرام لم تسمع بكلمة "الإخوان" من قبل. لا أدري كيف يمكن للإنسان أن يكون خسيسا هذه الخسة كلها، وكذابا هذا الكذب كله. أريد أن أوضح لك من الآن أنني لم أنتخب الإخوان وأنني قرأت للحافي نفسه تعليقا على انسحاب البرادعي فاستسخفتُ طريقته في الحكم على الأمور. هذا المقال ليس تأييدا للإخوان. لا أريد من هذا المقال إلا أن أعرفك كيف أفكر وكيف يفكر بعض المصريين في مجلس الشعب الجديد. أعلم أن الإخوان عانوا كثيرا خلال عشرات السنين من بطش الأنظمة القمعية السابقة، وأعلم أن منهم كثيرين (خاصة في الكوادر الشعبية البعيدة عن مكاسب السياسة) مخلصون تحملوا الاعتقال والتعذيب والظلم في سبيل مبادئهم، ولذا حين نجحوا في الانتخابات نسيت اختلافاتنا الفكرية والسياسية وفرحتُ لهم من قلبي. يشعر المصريون تجاه الإخوان كما تشعر حين ترى صبيا تيتّم وعانى مرارة الظلم والحرمان لكنه ظل يكافح سنوات ويتحامل على آلامه حتى نجح أخيرا وتخرّج بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف... لن تتمالك نفسك وستعانقه بعينيْن دامعتيْن مهما تكن مخالفا له في الرأي. هذا بالتحديد ما شعرت به تجاه الإخوان اليوم حين تابعت الجلسة الأولى لمجلس الشعب. لكنني مع ذلك أريد أن أقول إنني أشعر بالقلق من الإخوان. أخشى من صفقات السياسة ودهاليزها التي لا تنجو منها أي جماعة سياسية؛ أخشى من حسابات المكسب والخسارة، وحسابات المواجهة الفادحة أو المهادنة اليسيرة.. وأول من أقلقني كان الخضيري الذي لا ينتمي للإخوان لكنه مدعوم منهم. سأنشر هنا رسالة مني للخضيري أرسلتها إليه يوم 14 يناير (حين كان مرشح الإخوان لرئاسة مجلس الشعب) بسبب تأييده الصريح لرمز من رموز الفساد هو الدكتور سراج الدين الذي تستمر ثورتنا ضده في المكتبة منذ 26 أكتوبر الماضي، لكنه مسنود جيدا من الهانم وزوجها المخلوع. لا أريد أن أسارع إلى سوء الظن، أريد فقط ان أنبه الإخوان إلى أن المصريين منحوهم ثقة كبرى، وهم يستطيعون الآن أن يدخلوا التاريخ المصري من أجمل أبوابه؛ يستطيعون أن يؤسسوا نهضة اقتصادية وسياسية كبرى نفخر بها ويفخر بها أبناؤنا وأحفادنا. أريد مرة أخرى أن أذكّر مجلس الشعب كله بأن 25 يناير 2011 هو الذي منحنا هذا الهواء الجميل الذي نتنفسه، ولذا سأنزل يوم 25 يناير القادم حتى نستكمل مطالب ثورتنا. هذا هو نص رسالتي للخضيري بعد تعديلها بحذف جملتين قاسيتين منها، وأنا أسمح لنفسي بنشرها، لأنني تأكدتُ من أحد مساعديه من وصولها إليه، ولم يرد عليها. وكان سبب الرسالة أننا حين تظاهرنا أمام مكتب سراج الدين مطالبين برحيله، انضم له الخضيري وجاء لمكتبه مدافعا عنه: مساء الخير سيدي المستشار الخضيري إنني أكتب إليك بغضب شديد وبأسف أشد. أردت أن أكتب لك ذلك منذ الأحد الماضي، الأحد الذي حاولتَ فيه بكل الطرق الدفاع عن أحد رموز الفساد في مصر: الدكتور سراج الدين أهم رجال سوزان مبارك. لقد سكت النائب العام عن فضائح نظام مبارك وفساده وهو الآن يداري على فساد سراج الدين، ولذا أضحك كثيرا كلما تذكرت كلامك لي بأنك لن تقول على سراج الدين بأنه فاسد إلا انتهت النيابة من تحقيقاتها، طيب ما رأيك أنني نشرت سلسلة مقالات عن فساد المكتبة تثبت إهدار الملايين فيها (مدعومة بالمستندات) وطالبتُ إدارة المكتبة بالرد عليّ فخرستْ تماما، هل تفكر أنني سأنتظر قرارا من النيابة بعد كل ذلك؟ الفساد واضح وإهدار عشرات الملايين من أموال المكتبة موثق بالمستندات ومنشور في الصحافة، لكنكم مع ذلك تدافعون عنه. قلت لنا يوم الأحد الماضي إنك تريد عمل استفتاء على قبول سراج الدين على مستوى المكتبة، فقلنا لك إننا عرضنا عليك من قبل 1700 توقيع (من بين 2300 موظف) يطالب بإقالته فماذا فعلت يومها؟ وماذا لو أن أهل المكتبة جميعا طلبوا بقاءه وهو مدير فاسد بالأدلة الموثقة؟ هل ستسانده حينها؟ أذكر الآن أنني سهرت يوم إعادة انتخابك خوفا من هزيمتك أمام طارق طلعت مصطفى، كان اليوم السابع يذكر عدد الأصوات المفروزة كل عشر دقائق تقريبا، وكنت تتقدم بخطى غير واثقة وأنا أرتجف من القلق. كنت أقرأ عن نضالك لإصلاح القضاء وأقارنه بثروة آل مصطفى وتاريخهم المباركي القميء. كنت أرى الأمر رمزيا لا أكثر؛ أنت رمز لعصرنا الثوري الحر، وهو رمز لعصره المباركي البغيض. وحين أعلن فوزك سهرت أكثر من شدة فرحي، وذهبت إلى عملي باكرا وافر النشاط والسعادة بك، لأنني رأيتُ انتصارك انتصارا لدماء شهدائنا. لم أملك نفسي في اليوم التالي وكتبتُ مقالا مفعما بالسعادة والتفاؤل بالإخوان المسلمين، قلت في مقالي الذي لا أدري أقرأته أم لا: "على الجهة الأخرى لا يملك المستشار الخضيري مليارات لينفق منها بعض الملايين في الدعاية الانتخابية، فهو يعتمد على رصيده في قلوب المصريين وتاريخه النضالي من أجل تحرير القضاء المصري... الخطاب السياسي لنظام مبارك يفترض أن المواطنين أغبياء لا قيمة لهم. في أدبيات السياسة هناك ملامح لأي نظام، فالمسئول الحكومي في نظام مبارك يكذب على الناس دائما ولا يشعر أن لهم قيمة فهم لم يختاروه أساسا، ويقدس مصدر سلطته ويقمع كل مواطن تحت سلطته، يفكر في الاستغلال والانتفاع من عمله العام بدلا من أن يفكر في أنه خادم للشعب... من هنا أطمئن أصدقائي المرعوبين من الإخوان بأن الإخوان (رغم أنني لم أنتخبهم) يمتلكون ميزة كبرى تجعلني أرحب جدا بدخولهم لاعبا رئيسيا في الساحة السياسية، هذه الميزة أنهم لم يجيئوا من دائرة الحزب الوطني، أي دائرة المسئولين الكذابين والمنتفعين الذين يحتقرون الشعب، لأن الإخوان جاءوا من داخل هذا الشعب أيا كان اختلافي معهم، ولهم الحق في أن يجربوا تمثيل الشعب بعد انتخابهم... أرجو أن تكون هذه الانتخابات أول خطوة على هذا الطريق. لذا أنتظر من المستشار الخضيري وغيره من أعضاء المجلس بالإسكندرية أن يساعدونا في تطهير بلدنا من الفساد." يا لخيبة الألم، بعد شهر فقط أراك أمامي مستميتا (مع مدير أمن الإسكندرية) للدفاع عن رمز من رموز فساد مبارك، عن رجل كتبتُ بنفسي عنه مقالات تثبت بالمستندات فساده وإهداره عشرات الملايين من أموال البلد، ولا أريد أن أعيد عليك ما كتبته لأنك فيما يبدو توقفتَ تماما عن سماع صوت الشعب وبدأت تصغي فور فوزك لصوت السلطة. إنها مفارقة عجيبة حقا لكنها بالغة الدلالة: نحن الثوار في صف نطالب سراج الدين بأحد أمرين: إما أن يثبت براءته من وقائع الفساد الموثقة ضده وإما أن يستقيل، وفي الصف الآخر المواجه لنا: سراج الدين والخضيري ومدير أمن الإسكندرية الذي سحل متظاهري الغزل والنسيج بالمحلة عام 2008 وعدد كبير من المخبرين ورجال الشرطة العسكرية! يا للهول، ويا لنهاية تاريخك النضالي العريض! أنا الذي أدافع عن الإخوان وأتفاءل بهم وأهنئهم بفوزهم، حين أقرأ أنهم سيرشحونك لرئاسة مجلس الشعب، أشعر بالأسى وأخاف أن يصبح الإخوان المسلمون مثلك، أخاف أن ينسوا نضالهم وتضحياتهم الكبرى بعد أن يفوزوا بأغلبية مجلس الشعب، فيقفوا ضدنا لا معنا. إنني أحبك يا سيدي، فاسمح لي بكثير من الصدق معك. قل لي يا سيادة المستشار: لماذا تصرون حتى الآن على أننا سنخاف؟ قل لي: ألا يكفيك أننا تظاهرنا منذ قتل خالد سعيد رحمه الله ثم في 25 يناير حتى الآن، السلطة قتلتنا وتقتلنا وتصفي عيوننا وتصيبنا وتحرمنا من وظائفنا، وأنت تعلم حكايتي مع المكتبة وطردي منها بسبب معارضتي ثم عودتي بأمر الثوار فيها، لكننا مع ذلك مستمرون حتى نطهر وطننا العظيم، لقد سئمنا من غباء هذه السلطة (مبارك أو مجلسه العسكري، لا فرق) التي تصر على ألا تفهم شيئا، وتصر على قمعنا، افهموا إذن: نحن لن يقمعنا أحد.