يقولون أن الجنون هو تكرار نفس الأخطاء وتوقع نتائج مختلفة. وإذا كان بعضهم قد تعامل مع الثورة وكأنها فتاة عذراء ساذجة أخذ منها كلَّ ما يمكن أن يأخذه ثم تركها وادعى أنها سيئة السمعة، فمن الجنون أن نكرر الخطأ نفسَه مرةً أخرى، ثم نتوقع نتائج مغايرةخرىأ. هل تذكرون ما حدث مع محمد نجيب؟ محمد نجيب انقلب على الملك وقاد حركة الضباط أو الثورة فيما بعد ثم أطيح به، واليوم نستشعر اتجاهًا لفعل الأمر نفسه مع المشير، بتحميله أوزار العام الماضي كلها، ثم تنحيته وإزاحته من المشهد. فهل يهلل الثوار هذه المرة ويبتهجون ويطلقون الألعاب النارية ثم يحزمون أمتعتهم ويعودون إلى بيوتهم كما فعلوا في المرة الأولى، أم يستكملون ثورتهم ويصرون على تحقيق أهدافها والحصول على مكاسب جذرية وحقيقية وملموسة؟ يبدو أن هناك مشاكل جمة داخل المؤسسة العسكرية، وما بين المؤسسة العسكرية ومؤسساتٍ سيادية وأمنية أخرى، ويبدو أن كثيرًا مما رأيناه طيلة العام الفائت ولم نستطع فهمه كان نتيجةً لهذه المشاكل وتلك الصراعات الخفية عن الأنظار، كما يبدو لي أن هناك أطرافًا داخل المؤسسة العسكرية تشعر بأن المشير قد غدر بمبارك، وأنه السبب فيما (هم) فيه، وإذا لم يكن في الإمكان إعادة مبارك إلى سدة الحكم فليس هناك أقل من أن يغدروا بالمشير أيضًا لتتساوى الرؤوس، ولكي يمتصوا جزءًا كبيرًا من الغضب الشعبي، ويستطيعوا التظاهر بفتح صفحة جديدة خالية من الأخطاء ومن المسئولية عنها أيضًا. هل سيكون هذا في صالح الثورة أم أن الأمر لن يكون كذلك؟ لا أستطيع أن أجزم، لأني لا أستطيع أن أفكر، لأني متعبٌ وغاضبٌ ومتشوق إلى الحسم. لكن لنقل بأن هناك عدة سيناريوهات محتملة، أقربها أن ذلك لن يكون في صالح الثورة والثوار وإن بدا الأمر كذلك، لأني ما زلت أعتقد وإن خالفني كثيرون أن المشير برغم كل المآخذ التي عليه ليس أسوأ الوجوه التي تدير المشهد الآن، بل ربما يكون أفضلها، وإذا كان أفضلها فلنا أن نتخيل مدى السوء الذي سنواجهه. ثم إن القضاء على الخلافات والصراعات داخل تلك المؤسسات وفيما بينها سيجعلها أكثر قدرة على الشدة والصرامة والعنف في محاولة ضبط الأمور وتسييرها في الاتجاه الذي يراد له أن يكون. وهناك احتمال آخر مفاده أن تلك الأطراف غير راضية وغير مطمئنة إلى صعود الإخوان والسلفيين وسيطرتهم على البرلمان واقترابهم من مراكز صنع القرار، وستحاول استثمار ما سيجري في الأيام القادمة في تحجيم هؤلاء وكبح جماح تفوقهم وإفاقتهم من الحلم الذي يعيشون فيه، وذلك استغلالاً لحالة الفرقة والعداء التي سادت العلاقة بين أنصار الثورة وشبابها وبين هؤلاء، بحيث لن يواجهوا في سعيهم هذا أدنى انتقاد أو معارضة من كثيرٍ من فئات الشعب الواعية ومن الثوار أنفسهم، الذين سيرون في ذلك حصادًا مرًّا لما زرعه الإسلاميون بأيديهم، ونتاجًا لابتعادهم عن الثورة ومناوئتهم لها، وخاصةً إذا صاحب ذلك مزيد من التقارب والتصالح والتمكين للثوار. وثمة احتمال ثالث هو أن تلك الخطوة لن يكون لها أثر كبير في واقعنا، وسنستمر في المسار نفسه الذي تم رسمه في الأشهر الماضية بين جهات داخلية وخارجية عديدة، وستظل حالة الشد والجذب قائمةً ما بين الثورة والسلطة، إلى حين تنصيب رئيس جديد لن يزيد عن كونه طرطورًا كبيرًا، لأن أي رئيس قادم وفق المعطيات الحالية يجب أن يحظى بقبول جهاتٍ خمس: أمريكا (ومعها إسرائيل بالطبع)، والجيش، والإخوان، والسلفيين، والأقباط. والشخص الذي تقبله هذه الأطراف الخمسة لابد أن يكون مهلهلاً وطرطورًا من دون شك، لأنه سيكون حينها بلا موقف ولا شخصية ولا هوية، وبدون طعمٍ ولا لون، بحيث يتمكن من التلون لإرضاء هذه المتناقضات كلها. كل هذا لا يعنينا، لأن المهم ليس هو ما يريد الآخرون أن يفعلوه أو ما يخططون له، لكن ما سنفعله نحن بصدده ومن أجل مواجهته. ولا يجب أن ننسى أن الوضع صار أكثر تعقيدًا مما كان عليه قبل الخامس والعشرين من يناير الفائت، لأن العملية السياسية التي جرت في الفترة الماضية خرج منها أناسٌ بمكتسبات يريدون أن يحافظوا عليها وسيدافعون عنها، فإما أن ينحاز هؤلاء إلى المصلحة العليا للوطن أو سيصيبهم ما أصاب الحزب الوطني من قبل. كما أنه آن الأوان لأن يتحمل المخلصون من مرشحي الرئاسة مسؤوليتهم وينسحبوا من سباق الرئاسة كما فعل الدكتور البرادعي، لأن ذلك كفيل بقلب الطاولة رأسًا على عقب، وإفشال كل ما يحاك لهذا البلد، وإن كنت لا أعوِّل بعد الله تبارك وتعالى سوى على سواعد أبناء هذا الوطن وشبابه، الذين سئموا الطراطير وأشباهها. ولَمَّا كان ذلك كذلك فسأنزل يوم الخامس والعشرين، السلمية في يميني، وروحي فى يساري، وحقي ودمي فى رقبتي، وكرامتي فوق جبيني، وحب ربي وبلادي فى قلبي، وطريق أولادي مرسوم فى عيني، وصرخةٌ بالعدل فى صوتي. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسَنَه.