.. وفى عز هذا التقاتل المحموم على السلطة، والصراع الذى وجدت نفسى أتفرج عليه صامتا، وغضب تلك الفئات المحمومة المطحونة التى هُضمت حقوقها على مدار عشرات السنوات، وها هم أولاد اليوم يعلِّمون الحكام أمرا جديدا جدا عليهم، وهو أن الجلوس على مقاعد المسؤولية المكيفة فى مصر لم يعد نزهة، وفى خضم المكلمة التليفزيونية الفضائية القائمة على قدم وساق، وسوق عكاظ البرامج الذى أصبح يزاحم فيها نجوم السياسة نجوم السينما، والإثارة والتنظير والتحليل يختلط فيها الجيد والقبيح، وأمام سلطة قضائية تعاند نفسها وتتصارع مع نفسها بين كثيرين يريدون وجه مصر وأكثر يفضلون ترك مقاعدهم القضائية لأولادهم من بعدهم وإن لم يستحقوها، وفى طوفان الغضب على المجلس العسكرى ذى الطوارئ المفعلة، والقوانين الاستثنائية المحسّنة، وأعمدة المقالات المتروكة بيضاء فى الصحف دون كتابة، والمحاكمات العسكرية التى ألقت باثنى عشر ألفا من الثوار فى الاعتقال، وكشف العذرية بحثا عن البكارة لأن الرصيد يسمح! وبين صيحات الفلول التى تعلو هذه الأيام وتتجرأ مع دقات الساعة بعد أن كانت قد دخلت الشقوق بعد خلع مبارك، ولم أسمع بعد أن أحدا منهم قد تم المساس به أو حتى استجوابه عسكريا أو حتى مدنيا رغم التهديد بالحديد والنار الذى ينذر مصر كلها بالحريق، ودم الشهداء الذى راح نهائيا دون دية لأن وزير داخلية مصر الثورة يقول لنا إنه مفيش قناصة، وبين قرارات حكومة عرجاء خائبة لم تقل لنا حرفا واحدا عن أموال الشعب المنهوبة والموجودة فى الخارج، ذلك الخارج الذى يحاول بعضه الاتصال بها وبالنائب العام من أجل ردها ولا رد ولا إجابة، وحركة «ستة أبريل» التى تُتَّهم بالعمالة والخيانة وتلَقِّى التدريبات العسكرية فى الخارج ولم أر رغم ذلك واحدا منهم يمسك بندقية أو مسدسا أو حتى مطواة، بل على العكس، أراهم زينة شبابنا ومثلا أعلى، وفى غمرة ذهولى من فتح باب الترشح لانتخابات مجلس الشعب بينما المجلس العسكرى لا يزال يفكر فى تعديل المادة الخامسة من قانون الانتخابات ذاته، ويفكر فى تفعيل قانون الغدر، ورغم استمراره فى التفكير فى قوانين تتعلق بالانتخابات وقبل أن يحزم أمره ويتخذ قرارا فى شأنها، انفتح باب الترشح فجأة! لا أعرف كيف! قمة الفوضى والتخبط ليدور صراع جديد مع لجنة الانتخابات لأن الإسلام هو الحل! طوفان من الشتائم المفزعة والبذاءات يتفنن فيها فصيل من البشر على تويتر وغيره، كم مفزع من البذاءة يقابله طوفان من المناشدات آت من جميع الأطياف السياسية فى مصر للمجلس العسكرى أن يبل ريقنا حتى لو بخارطة طريق، كلام فوق دستورى وتحت دستورى ومناشدات ألجمت لسانى وألزمتنى الصمت، لم أتصور أننا قمنا بثورة لكى نناشد ونتسول عين ما هو حق لنا من هذا الحاكم أو ذاك، خصوصا بعد الدم والنار، وتصورت خطأ أن الثورة تأمر ولا تناشد، إحساسى الإنسانى البسيط هو أنى مصرى حر كريم، أنا لم أخلق فى الدنيا لكى أناشد وأترجى، ولن أناشد أحدا، ولن أنحنى لمن يقول لى إنه تفضل علىّ بأن رفض أن يضربنى بالنار وأنى بذلك يجب أن أعيش أسير فضله وإحسانه لأنه تركنى أعيش وكفاية عليّا كده، علما بأن الجيش المصرى العظيم لن يطلق النار على الشعب المصرى أبدا! ولو صدرت له الأوامر! لأن الجيش المصرى ليس وزارة الداخلية، بل هو كيان وطنى شريف مهضوم حقه كسائر مؤسسات مصر، ولو كان لديه، على عكس وزارة الداخلية، سلاح قناصة! المسألة عندى أبسط من ذلك بكثير، أقولها ببساطة وأجرى على الله، الأمر المبدئى أنه لا ثقة تُمنح مجانا لحاكم، ولا ثقة بحاكم إلا بأفعاله، ولن تُمنح الثقة لحاكم إلا إذا ترجم كلماته إلى أفعال يرضى عنها الشعب، وإذا لم يرض الشعب عن أفعال الحاكم، فعلى الحاكم أن يرحل، وهذه القاعدة لا تخص حسنى مبارك وحده، ولكنها تنطبق على كل من يريد أن يجلس على رأس الحكم فى مصر، ولو كان المجلس العسكرى، ولو كان المشير محمد حسين طنطاوى، ومن حقى كمصرى أن أنضم إلى كل الذين أجمعوا بالفعل على فشل أداء المجلس العسكرى، ومن حقى أن أنفرد وحدى فأقول إن المجلس العسكرى وقد فشل فعليه أن يرحل ويسلم السلطة إلى مجلس رئاسى مدنى من الثوار يختاره الشعب فردا فردا ويحاسبونه على خطته الموضوعة سلفا، يتولى إدارة المرحلة الانتقالية. لست فى حاجة إلى أن أناشد أحدا أو أستعطف أحدا ولو ملك بيمينه دبابة أو بندقية أو محاكمة عسكرية، لسنا فى حاجة إلى وكلاء يتولون تنفيذ مطالب الثورة نيابة عنها. إن ثورة 25 يناير ليست فى حاجة إلى أوصياء عليها وليس الثوار فى حاجة إلى من ينوب عنهم فى تحقيق أحلامهم بمصر ومطالبهم منها ورجائهم فيها، هذا هو الحق الوحيد المطلوب من الجالسين على كراسى الحكم اليوم، والباقى ملكنا ونحن أدرى به وأقدر على إنفاذه ليصير حقيقة واقعة. ببساطة زالت الثقة عبر الأشهر الماضية، وحل محلها الشك والريبة وعدم الاطمئنان، الأداء سيئ والإنجاز ضعيف باهت لا يسمن ولا يغنى من جوع، المطالب واضحة ومعروفة ومحددة ويدركها البسطاء تماما كما يدركها الخبراء ولا حاجة إلى تكرار وإعادة. إن مصر تترنح يا مجلس، ماينفعش كده! كفانا طوارئ، كفانا بطئا وتحنيطا، كفانا أحلاما مؤجلة ومطالب معطلة، كفانا تخبطا، دعونا ننطلق، الثورة لأصحابها.. والثوار وحدهم هم أصحاب الثورة.. والميدان هو الحل.