كثيرٌ من أبطالنا لن تراهم على شاشات الفضائيات ولا على صفحات الجرائد، و(لم ولن) يحظوا بمقعدٍ في مجلس الشعب أو في مجلس الشورى أو في المجلس الاستشاري أو في أي مجلسٍ من أي نوعٍ كان، وربما لن يذكرهم أحد على الإطلاق، لكنهم سيظلون ذكرى رقيقةً عذبةً في ضمير الوطن، وفي صدور من عرفهم حقَّ المعرفة. وعم رجب هو من هؤلاء بكلِّ تأكيد. عم رجب هو عامل نظافة في الحي الذي أقطنه، وهو طويل عريض أسمر البشرة، يناهز الخمسين من العمر، وهو أيضًا: أصمُّ وأبكم. ورغم أنه لا يسمع ولا يتكلم فلا بد من أن عينيه كانتا أحدَّ بصرًا، وأن قلبه كان أكثر بصيرةً من كثيرين، بحيث أدرك أن النظام شبه البائد في بلادنا يجب أن يسقط، فما كاد يلمح الحشود القادمة من بعيد يوم الخامس والعشرين من يناير الفائت حتى أخذ مقشته وكيسه الكبير الذي لا يفارقه وانضمَّ إليها، وللمرة الأولى أرى وجهه الطفولي يكاد ينطق بالفرح والسعادة، وهو يردد الهتافات وراء المتظاهرين لكن في صورة صراخ طويل مميز، وهو يلوح بمقشته في الهواء وكأنها سيفٌ خرج للتو من غمده. لكن هذا لم يكن أكثر ما أعجبني منه وفيه، ولكن تلك البراعة والمهارة في استخدام مقشته لالتقاط أعقاب السجائر أو المناديل المستعملة أو الزجاجات الفارغة، أو أي شيء يلقي به المتظاهرون وهم يسيرون غير عابئين بما يلقون، لكن عم رجب كان منتبهًا دومًا ومستعدًّا على الدوام، وكأنما كان يصر على أن تكون الثورة طاهرة نظيفة من كل وجه، وكأنه أحسَّ أن هذا هو دوره المنوط به فيها، الذي لن يفعله أحدٌ غيره إذا لم يفعله هو. ولم يتغيب عم رجب بعدها عن أية مظاهرة شاركت فيها، وأظن أني شاركت في جميعها، وظلَّ في تلك الأيام كلها يقوم بمهمته المعهودة بكلّ همةٍ ونشاط، وأراقبه أنا من بعيدٍ وأبتسم. انزعج عم رجب انزعاجًا شديدًا حينما رأى دبابات الجيش ومدرعاته في الشوارع يوم الثامن والعشرين من يناير، وارتفع صراخه حينها حتى صار أشبه بالعواء منه إلى الصراخ، وأخذ يجري جيئةً وذهاباً في حركةٍ شبه هيستيرية وهو يلوح بيديه بعلامة الرفض، وكأنه يريد أن يقول لنا شيئًا ما، لكنه لا يقدر على ذلك. ولم أفهم لذلك سببًا في حينه، لكن ردة فعله تلك عزَّزت من ذلك الشعور بالقلق وعدم الارتياح الذي أحسست به يومها، على عكس كثيرٍ ممن ابتهج وتهلَّل لرؤية الجيش. ثم أدركت بعد ذلك أن هذا الرجل الطيب ربما كان يريد تحذيرنا من أن مبارك قد وضعنا أمام حقيقةٍ أزليةٍ مفادها أن النظام في مصر يحميه الجيش لا الشرطة، وإن تغيرت الوجوه. وحينما يحل الليل كان عم رجب يستبدل مقشته بعصًا غليظة وينضم إلى اللجان الشعبية، ولكني لم أره يضرب بها أحدًا قَطّ. وفي إحدى الليالي الباردة أخبرني أحد الشباب أن هناك مشكلة كبيرة في شارعٍ قريب، فذهبت لاستطلاع الأمر، فوجدت عم رجب يقف أمام طابور من المدرعات ويرفض مروره لأنه يسير عكس الاتجاه، ويصر على التفافه ليدخل من شارعٍ مجاور. ودخلنا في مفاوضاتٍ شاقةٍ مضنيةٍ معه استغرقت ساعتين أو أكثر بلغة الإشارة التي لا أعرفها لكي يسمح بمرور المدرعات، نجحنا بعدها في إقناعه بالسماح لها بالمرور، ولو أراد عم رجب للطابور ألا يمر لم يكن ليمر إلا على جثته. تنوعت أنشطة عم رجب بعد ذلك، فحينما كانت الشرطة مختفيةً كان يحرس الأطفال الصغار بعصاه وهم ذاهبون إلى مدارسهم، كما كان يقوم بتنظيم حركة المرور بصورةٍ تفوَّق فيها على جميع ضباطنا، وشهد له الجميع بالبراعة الفائقة في ذلك حتى لقبناه بسيادة العميد رجب. بالإضافة إلى نشاطه المعتاد في النظافة وإزاحة برك المياه التي تتكون بعد أمطار الإسكندرية. رفض عم رجب الاعتراف بعودة الشرطة، واستمر في تنظيم المرور وفي الحراسة الليلية حتى بعد اختفاء اللجان الشعبية، وكنا نعلم وجوده عن طريق صراخه المستمر أثناء الليل وكأنه يطلب منا أن نستيقظ لأن وقت النوم لم يحن بعد. وفي ذات صباحٍ كنت مارًّا بسيارتي فوجدته ينظم المرور بحماسه المعهود، ففتحت نافذتي وقلت له: (أما زلت تفعل هذا يا عم رجب؟ الثورة خلاص)، فما كان منه سوى أن أشار إليَّ بعصاه أن أتحرك ولا أعطِّل حركة السيارات خلفي، هكذا من دون أدنى مجاملة، وكأنه لا يعرفني ولا أعرفه. وربما فعل ذلك لأنه لا يسمع ما أقول ولا يريد أن يسمع ما أقول. وكانت تلك المرة الأخيرة التي رأيته فيها. افتقدت عم رجب في الآونة الأخيرة، فسألت عنه بعض سكان الحي فأخبروني بأنه قد مات، في ذات ليلةٍ استند إلى حائط وأرخى رأسه ومات في صمتٍ كما عاش في صمت، لم تكن له زوجة ولا أولاد ولا أقارب معروفون، وتولى بعض أفاضل الحي تغسيله ودفنه. هذه هي سيرة الثائر البطل عم رجب، الذي كنت أظنه قبل الثورة شخصًا عاديًّا، فاكتشفت بعدها أنه رجلٌ غير عادي، وسيظلُّ دومًا حيًّا في قلوب من عرفوه. أسألكم الدعاء له بالرحمة، ولنا بالصبر والسلوان، ولثورتنا بالنصر.