كلما اقترب العيد الأول للثورة، ازداد حزني. فبعد الثورة كنت أحلم بمستقبل مصر، وأتساءل: أين سنكون قد وصلنا حين يأتي العيد الأول للثورة؟ وأتخيل بيني وبين نفسي حال البلد بعد مرور سنة من الاجتهاد والإصلاح والعمل بجد وتفاؤل وبالروح العظيمة التي سيطرت علينا بعد رحيل المخلوع. الآن أفكر في مصر بحزن، لكن بأمل أيضا. بحزن لأن المجلس العسكري كان شر خَلَف لشر سَلَف، فكان خليفة مبارك بامتياز وكافح من أجل قتل روح الثورة والدفاع عن الفساد بكل قوته، حتى لو كان الثمن هو قتل الشهداء ورمي أجسادهم الطاهرة في مقالب القمامة، وسحل البنات وتعريتهن، ثم حملات إعلامية دائبة تشوّه الثوار وتنتهك أعراض البنات. ومع ذلك أملي كبير أيضا، لأن الثورة التي لم تغير حتى الآن الإرادة السياسية لقيادة البلد، نجحت في تغيير الإرادة "الشعبية" للمصريين، يعني جعلتهم لا يخافون من قول الحق والدفاع عنه. في الصيف الماضي هبطت الثورة لأسوأ مستوياتها، واشتد هجوم أعدائها عليها على كل المستويات، حتى كدنا نيأس. في مكتبتي الجميلة، قامت الإدارة في ذلك الصيف بحملة منظمة للتنكيل بالمنددين بالفساد، لكن في أكتوبر لاحظت موجة من الغضب تجتاح المؤسسات المصرية الكبرى: المصرية للاتصالات، الغزل والنسيج، المطار، المترو، مكتبة الإسكندرية وغيرها... تاريخيا، يؤكد المؤرخون أن بدايات الثورات دائما تكون ثورات صغيرة متفرقة في قطاعات مختلفة، تتجمع موجات غضبها معا فيثور الشعب، وهو ما حدث قبل 25 يناير، وتكرر قبل مليونيات نوفمبر: 18، 22، 25 وهي المليونيات التي أيأست المجلس العسكري من فكرة استعباط المصريين ومحاولة التأبيد في الحكم وتأجيل الانتخابات والتدخل في كتابة الدستور. أرجو أن تظل ثورة المكتبة نموذجا لهذه الثورات الصغيرة التي ظلت صامدة منذ أكثر من 75 يوما، بخطوات بطيئة لكن واثقة، لأن ثورتنا تصر على استكمال أهداف 25 يناير وتطهير مؤسساتنا من الفساد، فالدكتور سراج الدين واحد من أهم رموز عصر مبارك الذي يحرص المجلس العسكري على حمايته. الدكتور سراج الدين أكد كثيرا أنه تولى إدارة المكتبة تقديرا للسيدة سوزان مبارك وعطائها، وقال عن جمال مبارك في لقاء بجريدة المصري اليوم بأنه مظلوم لأن الناس عاملوه كابن للرئيس فلم يقدروا إمكانياته وقدراته الكبيرة لمجرد أنه ابن الرئيس. الدكتور سراج الدين الذي اختاره مبارك عضوا بمجلس الشورى الذي أسقطتْه الثورة، والذي انضم للحزب الوطني ورتّب لقاءات للجنة الثقافية للحزب مع المثقفين المصريين. هل تريد إنجازات أخرى للسيد سراج الدين؟ قام بتكريم قتلة الثوار أكثرمن مرة بالمكتبة، ولكن الثوار الأحرار تظاهروا ففشل تكريم أحد المتهمين بقتل متظاهري المنصورة ومدير أمنها السابق، ثم أطل علينا سراج الدين بحوار طويل بجريدة الأخبار يذكر فيه بلا أي حرج أن النظام السابق وقف ضده في انتخابات اليونسكو، موحيا لنا بأنه من ضحايا هذا النظام. وحين ردّ عليه أحد شباب المكتبة بمقال يكشف حقيقته، قام بإنهاء عمله ضمن مسلسل التنكيل الذي وضع نهايته ثوار المكتبة الأحرار. هل تريد أدلة أخرى على فساد إدارة المكتبة؟ وصلني عقد أبرمته إدارة المكتبة ووقعه الدكتور سراج الدين مع أحد موظفيه لترميم قصر أنطونيادس بالإسكندرية (التابع للمكتبة). هذا العقد آية من آيات الفساد في البلد، وأذكر أن الكاتب الكبير سمير غريب تناوله مع مجموعة من وثائق الفساد بالمكتبة في سلسلة مقالات رائعة في مارس الماضي، كانت كفيلة بمحاكمة إدارة المكتبة، لكن المجلس العسكري وإدارة المكتبة ونيابة الأموال العامة، كأنهم في بلد أخرى! الدكتور سراج الدين يوقّع بنفسه عقدا لترميم القصر التاريخي مع مكتب هندسي باسم "شركة عوض" للهندسة المعمارية والمقاولات، هذا المكتب يملكه أحد مديري المكتبة الكبار، ويتقاضى مرتبه من المكتبة، فإذا به هنا يوقع عقدا من خلال مكتبه الهندسي كأنه طرف خارجي، وبأمر مباشر، رغم وجود مئات المكاتب الهندسية التي كان يجب أن تتقدم في مناقصة عامة وتتنافس في تقديم عروض مغرية تختار المكتبة أفضلها. الطريف أن المدير الكبير تقدم بسيرته الذاتية باعتباره مدير المكتب الهندسي، وفيها بالنص: "مدير مركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط" دون أن يذكر أن هذا المركز من إدارات المكتبة نفسها التي يتعاقد معها، يعني اعمل عبيط وخلاص. أزيدك من الشعر بيت؟ الاستشاري والمشرف على التنفيذ هو شركة ألكسندرينا للاستشارات الفنية التابعة للمكتبة أيضا، هذا يعني أن المقاول والمصمم (شركة عوض)، ثم الاستشاري والمشرف على التنفيذ (شركة ألكسندرينا)، ثم مالك المشروع (مكتبة الإسكندرية) هم شيء واحد، يعني زيتنا في دقيقنا. أما قيمة المرحلة الأولى من العقد فهي تقل قليلا عن 10 ملايين جنيه مصري. لا تعليق. في الأيام الأخيرة، حدثت إساءات وإهانات كثيرة ومتكررة من إحدى مديرات المكتبة وبعض مساعديها لزملائنا بأحد الأقسام لمجرد أنهم ثوريون ومظلومون. وفي ذات الوقت، وصلتني نسخة من تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، تفيد أن هذه المديرة تتقاضى مرتبا يزيد بأكثر من الضعف عن الحد الأقصى لجدول المرتبات الذي اعتمده مجلس أمناء المكتبة، وهذه هي جذور الفساد: ما الذي يجعل أي مدير يتطاول على مرءوسيه؟ أليس الدافع هو التجاوز من البداية والسماح للمدير بخرق القانون من البداية؟ أليس السبب هو ثقافة تغييب القانون، وتغليب المصالح الشخصية الضيقة؟ حين أسمح لمدير بتجاوز حدود جدول المرتبات فإنني أسمح له بإهانة مرءوسيه لأنه متأكد من البداية أنه فوق القانون. لقد تناولت في سلسلة مقالاتي هنا وقائع فساد تصل لعشرات الملايين من الجنيهات، ومازال العرض مستمرا، ومازلت أؤذن في مالطة، لكننا لم نتعب بعد من محاربة الفساد. مازلنا نقف معتصمين بساحة المكتبة في عز برد الإسكندرية، حتى لو لم يسمعنا أحد من المجلس المباركي، قصدي العسكري. نحن نحب هذا الوطن الجميل ونريد تطهيره.