قبل ان تقرأ ما تردد في قوله صراحة د - معتز بالله عبد الفتاح - ليس خوفا بالقطع لكن ربما أدبا - قاله شقيق الشهيد طالب الطب وأحد أبرز الذين كانوا يعالجون أبناءنا في المستشفى الميداني ، والذي اغتالته رصاصة غدر خسيسة فدفع حياته فداء لمهنته وإخوته وأمه مصر. قبل يومين رأيت معتز عبد الفتاح - وأنا شديد الحرص على متابعة برنامجه في قناة التحرير - حيث أستشعر فيه نبوغا غير معتاد ، ورؤية علمية شاملة فأتعلم منه واتثقف وأنا أكبره ب 20 عاما .. قال معتز أن المعضلة بالنسبة للمجلس العسكري أنه يريد ضمانا بالعفو قبل أن يترك السلطة .. وضرب مثلا ببلد أخر مر بنفس الظروف ، مؤكداً أن هذا المجلس لا رغبة لديه في الاستمرار بالسلطة ، لكنه يريد أن يضمن سلامته وسلامة أعضائه اذا ما تركها. ولم يُفسر معتز أكثر من ذلك ، بل انه لم يقل ما قاله إلا بعد تردد طويل أثناء الحلقة ، غير أن شقيق الشهيد طالب الطب وعمره لا يزيد عن 18 عاما " جاب م الآخر " وأطلقها كالرصاصة التي قتلت أخاه وقال : المشير طنطاوي خايف يسيب الحكم لأنه يعرف أن مصيره السجن ، مثله مثل مبارك ، لذلك لا يحلم أحد بأن الأمر سيكون سهلا ، فما حدث في فترة المشير الأقل من عام ، لم يحدث مثله في 30 سنة فترة حكم مبارك .. واختتم قائلا : حق أخويا مش حاسيبه .. قالها بثقة وقوة عجيبة دون أن تدمع عينه التي رأيت فيها إصراراً هو نفسه بالضبط الذي كانت عيون ثوار 25 يناير تلمع وتتلألأ به .. فاطمأننت أن البلد لسه فيها رجالة وأن الثورة لسه في الميدان. نصف ساعة كاملة تحدثت فيها ريم ماجد في بداية برنامجها ..أقسم بالله لو سمعها من تسري في عروقه نقطة دم واحدة ولم يتحرك ، ما استحق شرف كلمة انسان .. ريم تتكلم وعيناها تلمع بدموع بنت مصرية محروقة على بلدها ومما يجري على أرضها .. تصرخ بجدعنة البنات الثائرات وتقول بالحرف الواحد : أبوس ايديكم .. محدش يسألني كل ما يشوفني او يبعت لي رسالة ويقول لي انتي ليه دايما بتلبسي اسود او رمادي .. وأرد عليكم واريحكم .. لما يموت لنا عزيز واحد بنلبس اسود 40 يوم .. فما بالكم بأكتر من الف أخ وإبن وزوج وأب وعزيز .. على فكرة - تقول ريم - انا زي البنات .. بحب الأحمر والأخضر والأبيض والفوشيا كمان .. بس من بعد 11 فبراير، قبل الأربعين ما يعدي يموت شهداء تانيين .. كل ما اقول بكره حلبس طقم حلو بلون حلو، يموت عزيز وغالي من عيال مصر الرجالة .. عشان كده يا ناس يارايقين أوي وكل اللي شاغل بالكم الأسود والرمادي اللي انكتب عليا ألبسه ، أبوس إيديكم كمان مرة متسألوش السؤال ده تاني ، لأني بحس منه انكم مش حاسين بحاجة ومش فارقة معاكم حاجة .. اللي يموت يموت والاقيكم بتسألوا سؤال يوجع القلب : وإيه اللي خلاهم يعتصموا .. ولما بتشوفوا بنت مسحولة في الشارع ومجرورة من شعرها بتقولوا عليها إنها مالهاش أهل يربّوها .. لأ - وهنا دمعت عين ريم – والله العظيم ليها أهل ، ومحترمين أوي ، وفرحانين بيها أوي .. الفرق بينهم وبينكم انهم بيحبوا مصر بجد. ريم تتكلم من قلبها لا تمثل ولا تدّعي بطولة ، وتتحدث إلى الاغلبية الصامتة وهى تعرض عليهم فيديوهات الضرب المهين لولادنا وبناتنا وترجوهم أن يحكّموا ضمائرهم ولو للحظة واحدة : هل يقبلون ذلك .. اللي ماتوا يا جماعة مش بلطجية .. والله العظيم مش بلطجية .. ده دكتور ومهندس وصحفي وشيخ جليل .. بلاش تترحموا عليهم .. بس أبوس إيديكم .. ماحدش يشتمهم ويقول يستاهلوا .. دول ماتوا عشانكم .. ما انتم برضه أهلنا واحنا ولادكم .. لاحقدر أتبرى منكم ، ولا انتوا كمان تقدروا .. معنديش كلام تاني أقوله إلا ما قاله الإمام علي ابن ابي طالب .. وخدوا بالكم من الكلمتين دول " لاتستوحشوا طريق الحق .. لقلة السالكين فيه". ريم باكية بإخلاص عجيب : حاخرج فاصل وارجع تاني. .. مضطرا في هذه الأيام الغبراء أن أتنقل بين القنوات لأتابع كمصري مغترب دون إرادته كل ما يحدث ، غير ان ريم ماجد ربطتني بالحلقة وأبكتني بكاء مراُ ، وكان واضحاً انها " ناوية " تُبكي مصر .. فكانت ضيفتها " ماما خديجة " .. أقسم بالله لا أعرفها ولم أرها قبل ذلك ، غيرأنني وأثناء ثورة يناير ، كنت أسمع اسمها يتردد كثيراً بين الثوار، ويطلقون عليها أم المصريين .. فاتحة بيتها لولادها وهم بالملايين .. تداويهم وتُطعمهم وتأخذهم في حضنها الدافىء كأنها فعلا أمهم .. وكنت قد سمعت من الناشطة خريجة الصيدلة غادة كمال التي شقوا رأسها بالشوم فتعجلت الطبيب أن يُسرع بالخياطة لتعود مرة أخرى إلى زملائها .. سمعت غادة تحكي عن سيدة فوق الخمسين كانت توزع الساندويتشات على أبنائها الثوار ، فأمسكوا بها وألقوا بما تحمله من طعام في الزبالة ، وع الماشي أخذت " كام شلوت " وجُرت من شعرها وتم احتجازها في مجلس الوزراء .. وجاءها ضابط جيش في عمر إبنها وسبّها بألفاظ قبيحة وهى تقول له : عيب أنا في سن والدتك ، فانهال عليها صفعاً وركلها بأقدامه ، وأمسك باليد المعطاءة فكاد يكسرها .. وبعد كل ذلك وأكثر منه ، يطلب منها الاعتذار له " ماذا وإلا " .. مضطرة المسكينة اعتذرت وانكسرت أمام حيوان لم يراع أنها في عمر أمه ، ولو في دماغه ذرة باقية من عقل لشعر بالفخر لو كانت هذه المرأة فعلا أمه .. هذه السيدة المحترمة النبيلة الأصيلة كانت ماما خديجة .. ضيفة ريم. بهرني في وجهها المشرق ابتسامتها.. وكسر قلبي كسرة شديدة دموعها وهى تسرد كل ما قلته عنها حين تم احتجازها ، غير أنها نسيت كل شيء وهى تشارك في وداع شهيد الأزهر وتمشي في جنازته المهيبة ، وكل الثوار ولادها حين رأوها ارتموا في حضنها وقبّلوا رأسها ويدها المجروحة وقالوا لها : حقك علينا ياماما خديجة .. وحياة مصر.. مش حانسيبه. خايفة على الثورة ياماما خديجة ؟ .. تسألها ريم ماجد.. فترد : أبداً والله أبداً.. ولادي موجودين .. ما انتي شفتيهم يا ريم .. ولاد زي الورد .. يشرحوا القلب الحزين.. اللي يموت منهم يجي مكانه ألف .. متخفيش يا ريم مصر لسه عزيزة وقوية بولادها .. دول يا ريم ما حدش يغلبهم .. دول يا ريم ولاد مصر الحقيقين. .. واللي بيشتموهم يا ماما ومش صعبان عليهم اللي ماتوا ؟ .. تسأل ريم دامعة .. وترد ماما خديجة : معلش يا حبيبتي .. هما مش فاهمين.. مضحوك عليهم.. متزعليش منهم .. برضك أهلنا وولادنا. ... انتهت الحلقة .. ولم تتوقف عيني عن البكاء حتى لحظة كتابة هذا المقال الموجع الأليم .. قبلة على رأس العزيزة ريم كأخت أتشرف بها ليوم الدين .. وقبلة حارة على رأس ويد ماما خديجة .. أم المصريين.