أمن الدولة في معرض الكتاب. تناقلت الصحف والمواقع الإلكترونية الخبر مشفوعًا باعتزام الروائي إدريس علي تجهيز نفسه للاعتقال في أي لحظة. هي حلقة جديدة قديمة من مسلسل القمع في مواجهة حرية الفن، مفادها أن علي المبدع اعتبار نفسه مهددًا في حريته علي الدوام، لأن الحرية لدي أجهزة الأمن مشروطة بمدي قدرة الفنان علي التمويه والمراوغة. خطة تكتيكية للفرار من الملاحقة، أو الامتثال لها علي طريقة إدريس. الروائي يعرف كل شيء لا يغادر منزله أبدًا ويتابع باهتمام بالغ ما تنشره الصحف عن اعتقال ناشر روايته الجديدة «الزعيم يحلق شعره».. إنه القذافي هذه المرة. يقول الناشر إنه تعرض للمساومة من جانب أحد المصريين للتعتيم علي الرواية وعدم طرحها للتوزيع في معرض الكتاب، وعندما رفض الصفقة، أبلغ الأخير عنه أمن الدولة وكانت النتيجة أن تحركت فرقة مسلحة لاعتقال الرواية من فوق أرفف العرض فيما داهمت فرقة أخري مكتب الناشر واحتجزته مكبلاً بالقيود في قسم الشرطة بتهمة نشر رواية مسيئة للزعيم ملك ملوك أفريقيا. الحزن يتجه غرباً.. وإدريس علي يحمل أوجاعه الهائلة وعذاباته الكبري في اتجاه تغريبة بني هلال. يفرغ الروائي مأساته كاملة فوق الصحراء الليبية، ويلوذ بالفضاء الرحب من بؤس الأنظمة، والغياب القسري خارج التاريخ والأماكن. هناك أيضا يظل الروائي محاصرًا بالمباح والممكن والمقدس.. التابوهات الأخري تلاحقه، إغراؤها لا يقاوم، والنتيجة فادحة علي كل المستويات، تصل لحد المصادرة والاعتقال والقمع بكل الأشكال الممكنة. في هذا الفضاء المشحون بالتوتر، تتشابه البلاد، الحدود الفاصلة تختفي، لا يحتاج القمع إلي تأشيرة دخول، فجأة تتوحد كل الأقطار العربية تحت راية القهر، بتحقيق حلم العروبة الكبير فعلاً علي أرض الواقع، والواقع أبشع من قدرة الخيال علي التصور. كانت تغريبة الروائي النوبي دائمًا مفتوحة علي النهاية، كان حزنه ثقيلاً فادحًا علي الدوام، وهو الذي واجه مرارة النبذ والإقصاء والتهميش داخل الوطن، وحملت رواياته ميراثا هائلا من حيرة الجنوبي وغربته في بلاد الله الواسعة. الآن اكتملت تغريبة إدريس علي، صار لها شكل القيود، واستقرت ملامحها الكاملة في روحه، لن يذهب إلي أي مكان، فالأماكن واحدة، والقهر هو السيد الفرد، هنا أو هناك. المبعدون، وقائع غرق السفينة، دنقلة، اللعب فوق جبال النوبة، انفجار جمجمة، النوبي، واحد ضد الجميع، تحت خط الفقر، وأخيرًا «الزعيم يحلق شعره»، سيظل إدريس علي من الآن فصاعدًا ينظر إلي إبداعاته كأنها أطفال بديلة، كيانات صغيرة تختصر روحه الكبري ومراراته وأشياءه الضائعة، يحتمي بها من قبضة القهر ويواصل الكتابة بالرغم من كل شيء، الكتابة هي السفر الحقيقي بعيدًا عن قيود الواقع، هي الرهان الأبقي، البهجة التي تمنح الأشياء وجودًا وديمومة، حتي لو كانت فصولها مترعة بالمرارة والعنف والتشرد.