تمر الحركات الإصلاحية والأحزاب والجماعات والدول والأمم بمرحلة صعود يعقبها مرحلة هبوط اضطراري... يشبه ما تتعرض له الطائرات نتيجة الخلل في «المواتير» أو «المراوح»... ولمرحلة الهبوط علامات إذا ما شاهدها العقلاء علموا أن هذه الدولة أو هذا الحزب أو الجماعة أو الأمة يعانون خللاً في المحركات... وكانت مصر بعد الحرب العالمية الأولي قد وصلت إلي القمة وأصبحت تضاهي دول العالم اقتصاديًا وعلمياً وثقافياً... بل إنها تفوقت علي العشرات من الدول الغربية... في كثير من النواحي وكانت العملة المصرية أقوي من سائر العملات بما في ذلك الدولار والإسترليني... وكان العرب يطلقون علي النقود كلمة «مصاري» نسبة إلي مصر... وكانت الحكومة المصرية ترسل الدعم الاقتصادي إلي أكثر من تسعين في المائة من الدول العربية، وشهدت مصر أعلي قمتها بتصدير الآداب والفنون والعلوم إلي العالم كله... فأفرزت أكثر من عشرين عالماً في الذرة وخمسين عالماً في الاقتصاد والإدارة... ومئات الأدباء والفنانين والكتاب. المهم... أن ذلك التفوق في الأمم لا يدوم طويلاً... متي تم العبث في محركات الطائرة كما سبق القول... فموتور هذه الطائرة يتكون من عناصر أهمها العدالة والحرية والديمقراطية وحماية حق الآخرين في تداول السلطة واحترام حقوق الإنسان وغير ذلك كثير... فإذا ما أفسدت السلطة في الموتور عنصراً من هذه العناصر تعرضت الدولة للسقوط والهبوط الاضطراري رغم أنف الجميع... وأهم نتيجة لهذا الهبوط هو ظهور «الرويبضة»... والرويبضة هو العلامة الواضحة في وجه المجتمع... وهو ليس «بالوحمة»... ولا «بالخراج» ولكنه تشوه رهيب وسرطان حقير يدمر جسد الأمة... إلا أن الرويبضة يظهر كنتيجة حتمية لمخالفة قواعد «قوة الأمم» ثم لا يخرج من جسد الأمة إلا بعد علاجها... بقي إذن أن نعرف من هو الرويبضة... حتي إذا ما شاهدناه علمنا أننا أمام حزب أو جماعة أو دولة أو أمة فاسدة ولن تجد في معاجم اللغة من يشرح لك من هو «الرويبضة» أبلغ مما ورد في الحديث عندما سئل الرسول - صلي الله عليه وسلم - وهو يحذرنا من علامة ظهور «الرويبضة» كعلامة من علامات خلل المجتمعات فقال «هو التافه يتكلم في أمر العامة»... والعجيب يا سادة أن المتأمل لمجتمعاتنا الآن لا يجد إلا «الرويبضة» فهو في غالب الأمر المتحكم في أجهزة ووسائل وبرامج الإعلام، وهو رئيس القسم ومدير الفرع وهو المسئول المختص... وإذا صدر قرار بإقالة «الرويبضة» فإنك تجد من يتم تعيينه «رويبضة» أيضاً وبدرجة كبير الرويبضيين... حتي الاهتمامات العامة انتقلت من الدفاع عن القوميات وعن أمن البلاد إلي اهتمام من النوع «الرويبضي»... وأصبح آخر الانتصارات هو انتصار «أكتوبر العظيم» أما الانتصارات التالية فهي انتصارات وهمية لشعب لم يجد ما ينتصر له أو ينتصر منه... بعد أن أغلق الأعداء أمامه... وبسبب ضعفه... أبواب الانتصارات في العلم والتكنولوجيا والفنون والآداب... وحتي الذين يتصدرون أبواب الفنون فهم من عديمي الإبداع، فإذا كان الفن هو الأدب فلا نجد لدي من يتصدر للأدب رائحة من الأدب ولا إجادة للغة قومه... وحتي الترفيه أصبح ترفيهاً تافهاً ساقطاً يلقيه «الرويبضة» علي العامة، فالفوازير التي كانت فيما مضي وسيلة لنقل المعلومات يؤلفها «بيرم التونسي» وتلقيها «آمال فهمي».. تحولت الآن إلي وسيلة للنصب والميسر ولعبة الثلاث ورقات والقمار... كما سيطر «الرويبضة» علي التاريخ فلا يتم عرض إلا التافه من التاريخ، أما عظمة الأجداد فيتم السخرية منها من «الرويبضة» وموظفيه وأصحابه ولأن «الرويبضة» لا يعرف «الألف من كوز الذرة» فلم يتم تعيين أحد الرويبضيين حتي الآن كوزير «للطاقة النووية» ليس لأننا لم يعد عندنا طاقة ولا نووية ولكن لأننا حتي لو قمنا باستيراد النووي فلن نجد «رويبضة» يفهم كيف يتعامل مع هذه المفاعلات... وإذا ما تأملت أعلي قيادات الحركات الإصلاحية في بلادنا نجد أن ميكروب «الرويبضة» قد تسلل إليهم أيضاً فلم يعد القادة هم القادة وأصبحت المسئوليات تسند إلي أهل القربي والانصياع الأعمي والتحزب ويتم محاربة أهل الكفاءة والإبداع والتألق.. وهكذا يا سادة تسقط الأمم والجماعات.. أما العلاج فأمره سهل ميسور، فالطائرة التي تهبط اضطراريًا لعطل في محركاتها... هي التي تصعد اختياريًا... إذا ما أصلحت العطل، وليكن أول ما نبدأ في إصلاحه في الموتور هو ترس العدالة... والتي بدونها تهلك الأمم والجماعات والأحزاب والدول... مهما تترست من الهلاك بأسباب الدنيا... ومن العدالة أن يوسد الأمر إلي أهله وأن نستعين بأهل الكفاءة والعطاء وأن نكف عن سرقة إرادة الأمة بالتزوير وأن نعطي لكل ذي حق حقه... وأن نطرد من ديارنا كل «رويبضة» أتينا به بإرادتنا وبضعفنا وبحبنا للتسلط.... وبهذه المناسبة قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - (سيأتي علي الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)، قيل: وما الرويبضة؟ قال: (الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)....