يستفزنى بشدة إصرار الكثيرين من رموز القوى السياسية المناوئة للنظام الحاكم وكذلك أهل الفكر والرأى من الأدباء والكتّاب على إثبات تزوير انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، ومحاولاتهم المستمرة لتقديم الأدلة والبراهين التى تفضح التلاعب فى أحداثها ونتائجها، ويستفزنى أكثر استدراج كل هؤلاء للدخول فى مناظرات جدليّة عقيمة لنفس السبب مع أقطاب الحزب الوطنى، ذلك أن الحقائق والمُسلّمات لا تحتاج إلى إثبات، بل إن السقوط فى فخ الجدل بشأنها يجعلها احتمالا وليست حقيقة دامغة، فكل ما يسوقه هؤلاء أقل بكثير مما رآه وسمعه وعاش أحداثه المواطنون البسطاء، بل إن المدافعين عن تلك المسرحية الساذجة هم أكثر من يعرفون على وجه اليقين حجم التزوير والتلاعب لأنهم صُنّاعه ومُدبّروه، ويبقى الفارق الوحيد بين الطرفين فى حالة الرضا بما حدث، فبينما يجنح الفريق الأول بقوة نحو الرفض والاستنكار، يبدى الفريق الثانى سعادة غامرة بما تحقق، ويشعر بالرضا التام عن المقدمات والنتائج معا. لكن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة : هل كان ما حدث مفاجئا للجميع؟ .. بكل تأكيد لا .. فقد كان التزوير متوقعا والتلاعب منتظرا وإهداء الأغلبية الكاسحة فى البرلمان لعيون الحزب الوطنى مقدّرا، ولكن مالم يكن فى الحسبان حقا هو حجم هذا التلاعب الذى فاق كل خيال وتعدى كل حدود، فلم يعد الحزب الحاكم يهتم كثيرا بالإبقاء على بعض مساحيق التجميل السياسى الذى راهنت عليه معظم القوى الأخرى المشاركة متجاهلة للحقائق ومتجاوزة للمنطق، فالإخوان المسلمون كانوا يعلمون تماما مصيرهم المحتوم ولكنهم تمسكوا بما قد يتبقى فى قلب الجلاد من رحمة تمنحهم بضع عشرات من المقاعد، فإذا بالمفاجأة أن الحكم الصادر بحقهم هو الإعدام البرلمانى، أما أحزاب المعارضة - يقودها حزب الوفد بما قدمه للنظام من خدمات جليلة - فقد راهنت على نوايا الحزب الحاكم الطيبة فى تقسيم مقاعد الإخوان المُصادَرة عليها فإذا بها تجد نفسها مطالبةً بالرضا والقناعة بما يجود به عليها من صدقات متمثلة فى عدة مقاعد لاترضى الطموح والأطماع، لأن الجميع تناسوا متعمدين أنهم لم يحصلوا على الحد الأدنى من ضمانات النزاهة والشفافية التى طالبوا وتشدقوا بها كثيرا، وما كان لهم من الأصل أن ينتظروها بعد أن أعلن الحزب الحاكم عن نواياه السافرة بإقصاء القضاء عن الإشراف الفعلى على العملية الانتخابية، فإذا كان القضاء لم يتمكن من منع التزوير فى الانتخابات الماضية - وإن استطاع ترشيده - فماذا ننتظر بعد إبعاده تماما؟! .. ولماذا نغمض أعيننا ونصم آذاننا عن الرسالة الواضحة التى بعثها النظام والحزب الحاكم فى انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى؟. لقد فات الكثيرين أيضا الربط بين ما جرى مؤخرا فى الساحة الإعلامية "المراقب الأول والحقيقى لكل الأحداث السياسية ومن بينها الانتخابات البرلمانية والرئاسية" وبين ما انتواه الحزب الوطنى وعقد عليه العزم، فهل يمكن تجاهل إغلاق استديوهات قنوات أوربت وإقصاء الإعلامى اللامع عمرو أديب فى هذا التوقيت وهو من كان برنامجه "القاهرة اليوم" صاحب أفضل تغطية لانتخابات برلمان 2005مقارنة بالتغطية الهزيلة والمكبَّلة لكل القنوات لانتخابات العام الحالى؟! وهل يمكن أن نتجاهل التضييق على كتاب مثل حمدى قنديل وعلاء الأسوانى لينتهى الأمر باعتذارهم عن الاستمرار فى كتابة مقالاتهم؟! وهل يمكننا أن نتناسى إبعاد ابراهيم عيسى عن برامجه الفضائية ثم إبعاده تماما عن العمل بتأميم جريدة الدستور التى أسسها وصنع تجربتها الرائدة؟!!. لقد استوعبت وسائل الإعلام الدرس وفهمت مضمون الرسالة فبادر الجميع كرها أو اختيارا للنزول بسقف الحرية الذى كانوا قد حددوه لأنفسهم، فتناولت برامج التوك شو الأحداث على استحياء، وتعاملت مع الوقائع الثابتة على إنها ادعاءات قد تكون صحيحة أو لا تكون، ولم تذهب الصحف الخاصة كثيرا بعيدا عن هذا، ومع ذلك لم تسلم من بعض قرصات الودن للذكرى والتذكرة، فهذا هو الحزب الوطنى بكل سطوته وجبروته يشكو العاشرة مساء رغم أن "منى الشاذلى" يؤخذ عليها دائما أنها تغمض عينيها كثيرا أثناء الحديث، وهاهى الجلسة الأولى للبرلمان المزعوم - التى تقتصر فى العادة على الإجراءات وتبادل التهانى والقبلات - تحمل منذ اللحظة الاولى إنذارا شديد اللهجة لجريدة المصرى اليوم على إثر كاريكاتير رسمه "عمرو سليم" ليكون الإعلام هو أول خصوم برلمان الحزب الواحد. ربما يجدر بنا الإشارة إلى التساؤل الذى يطرحه الخبراء والسياسيون فى استنكار شديد : لماذا يقدم الحزب الوطنى على تفريغ البرلمان من المعارضة مع أنه - من وجهة نظرهم – لم يكن فى حاجة إلى ذلك؟، فوجود 88 عضوا من الإخوان فى البرلمان السابق إضافة الى آحاد النواب من المعارضة والمستقلين لم يمنع المجلس من تمرير القوانين وفرض الضرائب وتمديد الطوارئ، فلماذا الإصرار على استبعادهم؟ ولماذا يقاتل الحزب الوطنى لاستئصال نواب مثل بكرى وجمال زهران وسعد عبود وحمدين صباحى وعلاء عبد المنعم ومصطفى الجندى رغم أن أداءهم البرلمانى كان الدليل الأكيد على ضعف أداء نواب الإخوان الأكثر عددا؟ لعلى أكون مصيبا فى اجتهادى حين أقول أن واحدا من الأسباب الأهم التى أظنها غائبة عن الكثيرين أن البرلمان الموازى الحقيقى هو ذلك البرلمان الذى كانت تنعقد جلساته من خلال برامج التوك شو، فإذا كان الرأى العام لم يكن ليمكنه المتابعة الدقيقة لجلسات البرلمان الرسمى لغياب التغطية الإعلامية والتليفزيونية المتوازنة، فقد كان من اليسير عليه متابعة الاستجوابات وطلبات الإحاطة وتفجير القضايا من خلال جلسات البرلمان الفضائية فى المساء حيث تتحول الاستديوهات إلى قاعة للبرلمان، وحيث يصبح فيها هؤلاء النواب نجوما وينتقلون من مقاعد الأقلية إلى صفوف أغلبية كاسحة قوامها جمهور المشاهدين المتعاطف فى ظل ضعف الحجة والمنطق التى يسوقها الضيوف من رموز الحزب الحاكم وحكومته ودون خوف من الانتقال إلى جدول الأعمال بطلب موقع عليه من 20 من الأعضاء لم يعرف أحدٌ يوما أسماءهم. لابد أن ندرك أن الحزب الوطنى فى هذه المرحلة التى بدأت ولكنها لم تكتمل بعد يبدو حريصا على القبض على كل الألسنة من خلال السير فى اتجاهين متوازيين معا؛ الأول ينخفض فيه سقف النقد الإعلامى ومساحة الحرية الكلامية، والثانى إقصاء كل النواب الذين يتمتعون بالمصداقية لدى الجماهير ويتميزون بالسيطرة على أدواتهم والقدرة على مواجهة الإعلام، فلا مكان مطلقا فى المجلس الجديد لمن يمتلك الحجة أو النُّص لسان.