في العديد من اللقاءات التي تجمع بين صناع الأعمال الفنية والنقاد يحدث نوع من إعادة قراءة العمل الفني.. الناقد لديه زاوية رؤية قد تتوافق أو تتناقض مع المخرج والبعض يضيف من عنده الكثير تبعاً أحياناً لما يريد أن يراه في الفيلم أو ربما تفرض قناعاته السياسية والفكرية عليه تلك الرؤية.. أيضاً بعض المخرجين عندما يحللون أعمالهم هم الذين يضعون من عندهم قراءات أخرى للعمل الفني.. أتذكر في مهرجان "أبو ظبي" الذي انتهت فعالياته الجمعة الماضية أن بعض المخرجين مثل "مورالي نايير" مخرج الفيلم الهندي "عنزة عذراء" عندما سألوه عن فيلمه الساخر الذي يقدم في إطار رؤية فانتازيا خيالية علاقة تجمع بين بطل الفيلم وعنزة عذراء لا يقترب منها أي "جدي" أجاب بأن الفيلم يناقش فكرة التوحد التي يعيشها البعض حيث أنه لا يرى التواصل في معناه العميق إلا في هذه العنزة والحقيقة أن الفيلم ربما انطلق من هذه النقطة التي أشار إليها المخرج إلا أنه سبح إلى آفاق أخرى جمع بين البسمة وأيضاً الدمعة في أكثر من لقطة كان لديه رؤية لم تصل إلى حدود تناول قضية التوحد بل هذا المزج المغلف بخفة الظل كان له كل ذلك الحضور.. أيضاً "سيرك كولومبيا" الفيلم البوسني للمخرج "دانيس تانوفيتش" قدم هذا التقابل بين أب وابنه.. أب سافر إلى ألمانيا هروباً من سيطرة الشيوعيين إبان حكم "تيتو" ولكنه يعود بعد أن تقطعت أواصر يوغوسلافيا وتفرقت بين عدة دول دينياً وعرقياً.. بينما ابنه عند نهاية الفيلم يقرر الهرب إلى ألمانيا بعد أن صارت يوغوسلافيا على شفا حرباً أهلية الأب يتمسك بالأرض ارغم أنها مهددة بالدمار والابن يفر منها.. في المؤتمر الصحفي الذي عقده المخرج بعد نهاية عرض الفيلم مباشرة قال له أحد الحاضرين أن الابن قام بهجرة عكسية رداً على هجرة أبيه أجابهم لم أحسبها هكذا ولكنه استحسن الفكرة.. هذه المرة أضاف له الناقد معنى ربما قدمه لا شعورياً.. أما فيلم "دعني أدخل" الذي عرض في مسابقة "عروض عالمية" وهو فيلم عن مصاصي الدماء وإعادة لفيلم سويدي عنوانه "دع ا لشخص المناسب يمر".. الفيلم في النهاية يقدم هذا الإطار الدموي الذي تتميز به هذه النوعيات من الأفلام وغالباًما نرى علاقة حب بين فتى أو فتاة من عالم البشر وآخرين من مصاصي الدماء ولكن المخرج الأمريكي "مات ريفز" عند تحليليه لفيلمه في المؤتمر الصحفي الذي أعقب العرض يضيف أبعاداً أخرى عن المشهد السياسي وكيف أن القرار العالمي الذي طرح بدوره رؤية اجتماعية كان هو الدافع الخفي لتقديم هذا الفيلم وأنه لم يسعى لبناء فيلم عن مصاصي الدماء لمجرد اللعب بورقة الرعب والعنف ولكن هناك هم فكري وعقائدي يحركه ولكن الشاشة لم تكن تقدم أي شيء مما ذكره المخرج!! عرض أيضاً فيلم "رسائل بحر" في المسابقة الرسمية للمخرج "داود عبد السيد" هذه المرة أضاف أكثر من ناقد زميل الكثير من اللمحات.. أحياناً يلعب عدد من النقاد دوراً في تحلية البضاعة الأدبية والفنية ويضيفون تفسيرات خارج النص لم تخطر على بال مبدع العمل.. البعض يجد هذه الإضافات تعلي من شأن عمله الإبداعي ولا يكتفي بإظهار سعادته بهذا التفسير الذي لم يخطر له على باله بل ويتعمد التأكيد بأنه كان عامداً متعمداً وأن على النقاد أن يغوصوا أكثر ليحصلوا على دُرر أكثر.. قرأت مؤخراً سيرة حياة الكاتب "أرنست هيننجواي" صاحب الرواية الأشهر "العجوز والبحر" عندما بدأ النقاد في البحث عن تفسير لتلك الرواية التي أصبحت واحدة من أشهر وأخلد الروايات في الأدب العالمي اعتبروها تقدم رؤية فلسفية للحياة لأن العجوز يبدأ رحلته في الصيد وعندما يعثر على سمكة كبير يمسك بها بقوة وفي نفس الوقت يتحرك قاربه الصغير في اتجاه الشاطئ وعندما وصل كانت أسماك القرش قد التهمت سمكته الكبيرة ولم يبقى منها إلا هيكل عظمي.. قالوا أن هذا الموقف يشبه رحلة الإنسان في الحياة عندما تبدأ وهو يعتقد أنه يمسك كل متع الحياة بيديه ثم ينتهي الأمر بنهايته كهيكل عظمي مثل بقايا سمكة "هيمنجواي".. التشبيه يضفي الكثير من الزخم الفكري والفني على رائعة الأديب العالمي ورغم ذلك فإن هذا الثناء لم يرضه ولم يجعله يشعر بأنه قد صار طاووساً بين كل أقارنه الأدباء بل أزعجه كثيراً وقال أنه لم يتعمد أي من هذه الرموز وأضاف أن هذه التفسيرات تشبه وضع الزبيب على ا لخبز من أجل تحسين الطعم وأن كثير من الكتاب يهزمون أنفسهم بأنفسهم عندما يستسلمون للزبيب!! في فيلم "داود عبد السيد" مثلاً أثار قارب مكتوب عليه اسم "القدس" في نهاية فيلم "رسائل البحر" الكثير من التفسيرات حيث رأينا في المشهد الأخير بطلي الفيلم "بسمة" و "آسر ياسين" وسط البحر وحولهما الأسماك النافقة واسم "القدس" يتصدر الرؤية لم يكن "داود" يقصد شيئاً هو فقط استأجر قارباً وكل القوارب مكتوب عليها أسماء مثل "ما تبصليش بعين رضية بص للي اندفع فيّا" أو "الحلوة دي من العتبة" و "بعيد عنك حياتي عذاب" و "رمش عينه اللي جرحني".. سيل منهمر من التفسيرات السياسية ذات الصلة بالطبع بمدينة القدس بما تحمله من قيمة روحية لأصحاب الديانات الثلاث انهالت على "داود" سواء في القاهرة أو عند عرض الفيلم في أبو ظبي أضافوا زبيب وجوز هند ومكسرات وكان "داود" منضبطاً ومدركاً لتلك الخطورة حتى لا ينساق وراء إضافات فارغة تحطم رؤيته للفيلم ولهذا كان أول المعترضين على مكسبات الطعم واللون والمعاني التي أضافها بعض النقاد.. وظل "رسائل البحر" خبز ممتع بلا "زبيب". الفيلم السينمائي يملك بالتأكيد أبعاد متعددة عند قراءته ولكن البعض منها قد يضيف أو يتمنى أشياء لم تحدث فقط إلا في خياله وبعض مبدعي الأعمال الفنية أيضاً يطيب لهم ذلك!!