ما أقساها تلك اللحظة التي وقفنا فيها سويا ننظر من "بلكونة" المبنى القديم نودّع كل اللحظات الجميلة التي مر عليها خمس سنوات تركت بداخل كل واحد فينا علامات محفورة يصعب تجاوزها بسهولة.. هنا كنا نجلس داخل الغرفة التي يحمل بابها لافتة "قسم الفن" والتي تقع في وشك وانت داخل الشقة اللي على ايدك الشمال في مقر جريدة "الدستور". وهنا كنا بنتجمع كلنا حول التكييف الصغير "قوة ربع حصان" الذي حاولنا معه مرار وتكرارا علشان يشتغل ومشتغلش لحد النهاردة.. وهنا كانت دعاء سلطان تجلس على مكتبها وهي تصرح متسائلة :"مين اللي قعد على مكتبي قبل ما أنا أجي ووقّع عليه أكل؟" فينظر لها محمد حسين وهو فاتح "بقه" من الدهشة دون ان يخبرها بان هو اللي كان قاعد على مكتبها، وينتهي الحوار بينهما يوميا دون ان تحصل دعاء سلطان على اجابة لسؤالها التاريخي. اما هنا في منتصف الترابيزة بالظبط فكان يجلس رامي المتولي ليمارس هوايته المفضلة في خدمة كل الموجودين تكنولوجيا.. اسلام الويندوز بتاعه ضرب.. نجد رامي اول من يعرض عليه المساعدة لاعادة "تسطيب" نسخة ويندوز جديدة لجهازه، حميدة تشكو من ان الكي بورد بايظ.. نجد رامي وقد اصلحه لها في خمس دقائق.. دعاء بتدور على فلاشة في اقل من ثلاث ثواني يكون رامي اتصرف في فلاشة.. ياما انقذنا من كوارث تكنولوجية محققة. بينما تجلس حميدة أبو هميلة في الركن البعيد الهاديء امام شاشة الكمبيوتر الكبير لتمارس عملها في هدوء غريب لا يتناسب مع جو الدوشة الذي كان يسيطر على الغرفة في ظل خناقات محمد حسين ورضوى اليومية والحوارات الجانبية، وفي الخلفية يعلو صوت أحمد سعد وهو يغني "مش باقي مني.." وهي الاغنية التي صنعت منها دعاء نشيد وطني للقسم من كتر ماكانت بتشغلها، في وسط كل هذه الأصوات المتداخلة كانت حميدة تعمل في هدوء عجيب سريعا ما ينتهي بصوتها وهي تصرخ :"بس بقى يا جماعة مش عارفة اشتغل"، وهو الانفعال الذي يزداد مع اقتراب ساعة الصفر بسؤال دعاء سلطان الشهير :"أخبار الشغل ايه.. عندنا ايه النهاردة؟" وهو السؤال الذي تزداد حدته يوم الجمعة –يوم تقفيل الاسبوعي- لكن سريعا ما تنتهي حالة التوتر بايميل من ايهاب التركي يحتوي على "كبشة" مواضيع اسبوعي تنقذ الموقف سريعا وتجعلنا نلتقط أنفسانا بعد ان ظلت محبوسة لفترة طويلة. احمد خير الدين.. كنا دايما بنعرف قيمته بعد أن تنهار قوى حميدة فتحمل شنطتها وجري على بيتها، وقتها كانت تبدأ مهمة احمد خير القومية في "دسكة" ما تبقى من شغل الصفحة، لكن تبقى اللحظة الأهم والأكثر تأثيرا فينا جميعا هي تلك التي يدخل فيها "خير" من باب الاوضة وفي يده لفائف "المشبّك" اللي جابها معاه من دمياط بتوقيع العظيم "فشور". رضوى الشاذلي لا اتذكر أنني شاهدتها يوما وقد توقفت عن الضحك، حتى وهي بتشتغل كانت بتضحك.. صحيح كانت بتجنننا وماكناش بنعرف نشتغل منها، لكن بمجرد أن تبدأ فقرتها اليومية مع محمد حسين -واللي كانت دايما بتنتهي بنكد- كان كل واحد فينا لازم يسيب اللي في ايده ويتابع الفقرة باهتمام لأنها قد تكون اللحظات الوحيدة التي هنضحك فيها من قلبنا طوال يوم طويل مشحون بضغوط العمل. وبينما كان محمد طارق يتابع الفقرة بابتسامته المميزة، كان اسلام مكي يرفض أن يجلس معنا في مقاعد المتفرجين فقد كان حريصا على المشاركة في الفقرة اليومية بين حسين ورضوى بأي حاجة انشالله لو بتصوير الفقرة بكاميرا موبايله. أما محمد عبد الكريم فكان يتابع كل هذه المغامرات عن بعد في صمت تام يخرج عنه صارخا "بسسسسسسسسسسسسسس" ثم يفاجئنا بعدها بايفيه عبقري ينهي به القعدة كلها في ثانية واحدة بحالة ضحك جماعي كنا ننتظرها منذ اللحظة الأولى لدخوله من باب الغرفة.. بعدها نلتقط انفاسنا في استراحة قصيرة نتابع خلالها احدث مستجدات باربي قسم الفن "سوزان وليد" التي لم تتخلى يوما عن اللون البمبي في اختياراتها للاشياء، لنفيق بعدها على اتصال من محمود لطفي يذكرنا فيه بأن خبره العاجل الذي أرسله من تلتربع ساعة لسة منزلش على الموقع.. ليخيم الصمت على المشهد للحظات مع صوت رضوى وهي بترد على جرس التليفون قائلة: "الو.. ايوة موجودة يا استاذ ابراهيم.. ثم تبعد السماعة عن أذنها قليلا وتلتفت لدعاء قائلة :"يا دعاء كلمي استاذ ابراهيم عيسى". كل هذه الصور مرت أمام أعيننا في لحظات خاطفة ونحن ننظر من بلكونة القسم على شارع أحمد نسيم قبل أن نغادر المبنى بدقائق، في نفس الوقت الذي كان العمّال يقومون فيه باخلاء المكان.. ها هم يحملون المكتب الذي كان يجلس عليه محمد حسين والذي شهد الشرارة الأولى لمغامراته مع رضوى واسلام، وهاهو عامل آخر يحمل جهاز الكمبيوتر الذي كانت حميدة تجلس امامه بالساعات يوميا لدرجة اننا كنا بنقول لها :"وشك هيبقى شبه المربع يا حميدة"، وها هي مجموعة أخرى من العمال تحمل الترابيزة التي شهدت "لمتنا" تحت التكييف البايظ يوميا حتى نفقد فيه الأمل فنقرر نفتح الشباك، وهاهو مكتب دعاء سلطان يغادر الغرفة ويحمل معه سر محمد حسين الذي أخفاه عنها طوال هذه السنوات، وهاهو معرض الصور الذي قام اسلام بتجميعه من المجلات وبوسترات الألبومات ولصقه على جدران الحائط بايده صورة صورة، هاهي الصور ملقاة "بلا رحمة" على أرضية الغرفة التى تحولت لأربع حيطان وسقف بعد أن خلت من كل شخوصها، ومحتوياتها، ولم يبق فيها منّا سوى صوت أحمد سعد وهو يتردد في المكان: "مش باقي مني غير شهقة في نفس مقطوع.. وأنا صوتي مش مسموع.. يا حلمنا الموجوع.. من المرور ممنوع".