يعتبر فهمي شقة جزيرة بدران خزانة عمره، يذهب إليها بمفرده كل أحد، يفتح شبابيكها ويتأكد من صلاحية أشرطة الكاسيت، ويشاهد ألبوم الصور ويفرد جسده قليلاً، الشقة في الدور الرابع، لم تدخلها زوجته الصيدلانية منذ بناء بيت الهرم سنة 1980، فهمي عاش في الإمارات عشر سنوات مدرسًا للموسيقي، لم يفتح غرفة «الضرب» منذ 1985 ،عام عودته النهائية، بعد عملية القلب المفتوح التي أجريت له وتوقفه الإجباري عن التدخين،لم يشعر بالسعادة وهو بعيد عن شبرا، بيت الهرم في شارع متفرع من خاتم المرسلين، مكون من ثلاثة طوابق، يعيش في أول بلكونة هو وزوجته التي تهتم بالصيدلية الموجودة بالدور الأرضي أكثر منه، هو يخاف منها، وزاد خوفه بعد زواج ابنته فيولا وسفرها إلي كندا مع زوجها (الذي يعمل سمسارا للعقارات مع شقيقها مايكل هناك)، نيفين تفكر هي الأخري في الهجرة، وتقول له إنه هو العائق الوحيد، لأنه لا يصلح للحياة هناك، مايكل يتصل به في شقة شبرا كل أحد،لأن الكلام الذي بينهما لا ينبغي أن تعرفه الأم، يشعر فهمي بأنه أخطأ في حق نفسه وفي حق مصر عندما سافر وتخلي عن الموسيقي التي بداخله من أجل المال، وأنه كان ينبغي أن يواصل التلحين، في الهرم يقولون له «يا دكتور»، لأنه يقف في الصيدلية ويصرف الدواء، ويلجأ إليه الناس في الطوارئ ويعطيهم دواء ناجعًا، في يناير 1993 سافرت نيفين إلي كندا لأن فيولا علي وشك الولادة، ولأول مرة يكتشف فهمي حريته، لم يعد ينزل الصيدلية بالبدلة والكرافت حسب أوامر زوجته، وبدأ يستقبل الزبائن بالبيجامة، وعاد تدريجيا للتدخين، عاد في وقت شهدت فيه مصر أزمة في الحشيش لم تشهدها من قبل، هو يتابع أخباره من بعض الأشقياء الذين كانوا يبتزونه ليأخذوا الترامادول والتوسيفان نظير حمايتهم له، أخذ موقفا حادا من المخدر ذي الرائحة الكريهة الذي لم يستوعبه والذي حل محل كيفه القديم، في أحد الآحاد، ذهب كعادته إلي جزيرة بدران وقرر أن يتخلص من الأشياء التي لا لزوم لها، بينها بدلتان قديمتان لا يحتمل الزمن وجودهما، وبعض الأحذية والكتب، وقرر تصليح آلة العود المعلقة علي الحائط، وفتح غرفة الضرب التي لم تفتح من قديم الأزل، الغرفة ضيقة، عبارة عن جلسة أرضية تسع خمسة أشخاص غير السلطان الذي له مكان مميز، وثلاث «جوز» نحاس، وأكثر من خمسين حجر ماركة ياسين «المنقرشة»، وهي من الأحجار التي يتم «تشعير» المعسل فيها ولا تصلح إلا للحشيش، لم تكن الإدارة في حاجة إلا لأشياء بسيطة مثل «الغاب» وتلميع «الجوز» والتهوية ونقل الكاسيت إلي الداخل، وعندما بانت الشقة قرر ألا يذهب إلي الهرم، زار قريبه المعلم فوزي في روض الفرج، واشتري جبنا وتونة وفاكهة، واصطحب وهو عائد «بتاع روبابيكيا»، الرجل وقف في الخارج، ودخل فهمي إلي غرفة النوم، أخذ البدلتين وفردهما علي السرير، وقف يتأملهما في البداية، ثم جلس إلي جوارهما، أمسك الشماعتين الخشبيتين الجميلتين، و«استخسرهما» في الرجل الذي يقف إلي الباب، أخذ يقلب البدلتين ويتأكد من أن جيوبهما فارغة، فعل ذلك بشكل تلقائي، ولم يصدق نفسه وهو يخرج قطعة حشيش لا تقل عن نصف أوقية منسية منذ السبعينيات، تحدث إليها بفرح «أنا فاكرك..إنت فاكراني.. إنت كنت فين؟»، الرجل في الخارج بدأ يضغط علي جرس الباب بعصبية ملحوظة، فهمي خرج إليه سعيدا وخفيفا وأعطاه البدلتين وقال له «دول هدية»، وأغلق الباب في وجهه بعنف، قرر وهو يفتحها ويشمها أن يبحث عن أصدقاء الماضي لاستعادة الماضي، وجهز كل شيء، ودرب نفسه من جديد، ونسي الصيدلية، وظل لمدة ثلاثة أيام يتصل ولم يعثر علي أحد، ذهب إلي بولاق أبو العلا يسأل عن الشيخ سلامة صديقه الكفيف صاحب الصوت الجميل، قيل له إنه مات منذ خمس سنوات، ذهب إلي مقاهي الآلاتية ولم يجد الوجوه التي كان يعرفها، وفي النهاية دخل إلي بار ستلا في شارع سليمان باشا وجلس يشرب بيرة... ويبكي. اعتذار اتصل بي الشاعر الكبير والصديق عبد الرحمن الأبنودي وصوب لي خطأ وقعت فيه في العدد قبل الماضي وقال إن أغنية «آسيت ولا حد آسي قد ما آسيت» هي من ألحان زكريا أحمد وكلمات بيرم التونسي وغناء سعاد محمد، شكرا له وأقدم اعتذاري للقارئ.