بحضور 400 طفل.. «أوقاف القليوبية» تدشن لقاء الجمعة بمسجد في بنها    بشري سارة للموظفين .. 4 أيام إجازة رسمية | اعرف موعدها    413 مدرسة تعليم صناعي تقدم خدمات صيانة ومنتجات وموبيليات بأسعار تنافسية    كل ما تريد معرفته عن قانون رعاية حقوق المسنين| إنفوجراف    الخشت: تخصص الصيدلة وعلم الأدوية بجامعة القاهرة أصبح ال 64 عالميًا    جولد بيليون: الذهب يتجاهل السياسية النقدية الأمريكية ويتحرك قرب مستوى 2400 دولار    توريد 984 طن قمح لشون وصوامع البحيرة    «آمنة»: الانتهاء من مشروع تطوير منطقة أعلى مفيض ترعة نجع حمادي بسوهاج    المشاط تعقد لقاءات مع مؤسسات التمويل الدولية خلال اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين    فصل الكهرباء عن مناطق بالغردقة ومرسى علم.. اعرف المواعيد والأماكن    لتبادل العلاقات الثنائية.. وزير الخارجية يزور تركيا غدا    أسقطوا الطعام وليس القنابل.. احتجاجات أمام السفارة الأمريكية في تل أبيب    دوري أبطال أوروبا.. حامل لقب أول نسخة وآخر المتوجين ب «ذات الأذنين»    دوري أبطال إفريقيا| محمد شوقي يطمئن على ترتيبات مباراة مازيمبي    أسطورة ليفربول: الاحتفاظ بصلاح سيكون صعبًا وفان دايك سيبقى    الداخلية تداهم بؤرتين وتضبط 36 كيلو مخدرات قيمتها 16 مليون جنيه    ضبط مسئول محل لبيع المأكولات لحيازته كمية كبيرة من المواد الغذائية مجهولة المصدر    برنامج MEPEP لتطوير مهارات القوى العاملة يشارك في معرض EDUTECH 2024    احذر الرادار.. رصد 8500 سيارة تجاوزت السرعة خلال 24 ساعة    وصول جثمان الفنان صلاح السعدني إلى مسجد الشرطة لصلاة الجنازة    إقبال جماهيري على جناح مصر في بينالي فينيسيا للفنون 2024    الأوقاف: افتتاح 8 مساجد في الجمعة الثانية من شوال.. تفاصيل    ل3 أسباب.. خطيب المسجد النبوي: الله كرم الإنسان حين خلقه في أحسن تقويم    دار الإفتاء توضح مسبعات الجمعة    الصحة: فحص 432 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    إصابة شخصين إثر حادث تصادم 3 سيارات فى شارع التسعين بمنطقة التجمع    تشكيل فرانكفورت المتوقع لمواجهة أوجسبورج في الدوري الألماني.. موقف مرموش    1490 طنا.. وصول القافلة السادسة من مساعدات التحالف الوطني لأهالي غزة (صور)    إسعاد يونس تنعى الفنان صلاح السعدني بصورة من كواليس «فوزية البرجوازية»    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    تعرف على أبرز مخرجات لجنة الثقافة والهوية الوطنية بالحوار الوطنى    موعد ومكان عزاء الفنان صلاح السعدني    اعتماد جداول امتحانات نهاية العام الدراسي في الوادي الجديد    وزير التنمية المحلية يعلن بدء المرحلة الثالثة والأخيرة لإزالة التعديات على أراضي الدولة ضمن الموجة ال22    استشهاد شاب فلسطينى وإصابة 2 بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم نور شمس شمال الضفة    "رصدته كاميرات المراقبة".. ضبط عاطل سرق مبلغا ماليا من صيدلية بالقليوبية    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    تمريض القناة تناقش ابتكارات الذكاء الاصطناعي    شهدها البابا تواضروس، تفاصيل وثيقة الكنيسة للتوعية بمخاطر زواج الأقارب    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    وضع حجر أساس مشروع موقف إقليمي جديد بمدينة المنيا الجديدة    إيرادات السينما أمس.. شقو في المقدمة وأسود ملون يتذيل القائمة    مارتينيز: حصلت على بطاقة صفراء ثانية بسبب سمعتي السيئة.. ولا أفهم القواعد    كشف لغز بلاغات سرقة بالقاهرة وضبط مرتكبيها وإعادة المسروقات.. صور    الحكومة تنفي عودة عمل الموظفين يوم الأحد بنظام ال"أون لاين" من المنزل    رضا عبد العال يعلق على أداء عبد الله السعيد مع الزمالك    فتح ممر إنساني نهاية إبريل.. إعلام عبري: عملية رفح محسومة والسؤال عن توقيتها    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    غداء اليوم.. طريقة تحضير كفتة الدجاج المشوية    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    موعد مباراة الترجي وصن داونز بدوري أبطال أفريقيا    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    السفير نبيل فهمي: مصر ركيزة أساسية لأمريكا وأوروبا في ظل اشتعال الصراع بالمنطقة    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات أنطون تشيخوف
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 12 - 2010

عُثر بين أوراق أنطون تشيخوف غير المنشورة علي سلسلة من القصاصات داخل مظروف يحمل هذه الكلمات: "موضوعات، أفكار، ملاحظات، شذرات"، ثم كشفت زوجته أولجا ليوناردوفنا كنيبر عن مفكرته التي كان يدوّن فيها مداخل منفصلة تتعلّق بأعماله المستقبلية وأحلامه والاقتباسات التي أحبها. أعاد تشيخوف نسخ هذه المتناثرات في دفتر آخر، بعد شطب ما أدرجه ضمن كتبه المطبوعة أثناء حياته، وقد أولاها اهتماماً خاصاً ولم يؤرّخها عموماً علي غرار اليوميات المعهودة؛ هنا يسجل أسماء غريبة أحياناً قد يطلقها لاحقاً علي شخصيات قصصه ومسرحياته ملتقطاً تفاصيل رسمها الأولية، كما يضع حوارات غير مكتملة وعناوين مسرحيات لم يكتبها( قشر الليمون، الخفاش، المطر الذهبي). في هذه الأوراق التي تغطي أعوامه الاثني عشر الأخيرة (1892-1904)، كثيراً ما يختزل تشيخوف اسم الشخص في حرف أو اثنين كي يشير إلي حكايات متنوعة، ساخرة وقصيرة، واقعية ومخترعة. نراه بدفء لطافته وفطنته يقترح علي الشبان كتابة مقالات من قبيل (تورج ينيف والنمور)، ويلمّحُ إلي ما يسترعي انتباهه في مشهد عابر: ثرثرة تتناهي إليه في قطار أو مطعم، شخص يصادفه خلال إحدي السهرات، زلات اللسان والهفوات وأخطاء الفهم والتلاعب بمعاني المفردات... وكل ما قد يستوقف بصيرته في المسرح والطب والتعليم والصحافة ودقائق الحياة اليومية. هذا هو الجانب الخفي لدي كاتب كبير لم يكتبْ قطّ علي مرأي من أحد.
أخبرني جاري ف.ن.س إن عمَّهُ الشاعر الشهير فيت-شنشين، وأثناء عبوره شارع موخوفايا، كان دائماً يفتح نافذة عربته ويبصق علي الجامعة. كان يتنحنح ثم يبصق: باه! اعتاد حوذيه هذا السلوك منه، فكان يوقِف العربة كلما مرُّوا بمحاذاةِ الجامعة.
في فبراير، 1896، وأثناء مروري بموسكو، مضيتُ لأري ليف تولستوي. كان ساخطاً في ملاحظاته اللاذعة عن المنحطين أخلاقياً، وظل قرابة ساعة ونصف يجادل ب. تشيتشيرين الذي حسبتُه لا يتفوّهُ إلا بالهراء طوال الوقت. كانت تاتيانا وماري (ابنتا تولستوي) تفتحان فألاً فتمنّتْ كلٌّ منهما أمنية وسألتاني أن أسحب ورقة من بين الأوراق؛ فسحبتُ لكلٍّ منهما علي حدة آس البستوني مما ضايقهما. كانت هناك بالصدفة ورقتان من آس البستوني. كلتاهما في غاية الحنوّ وموقفهما تجاه والدهما مؤثّرٌ حقاً. طوال الأمسية استهجنت الكونتيسة الرسامَ جي، فقد كانت ساخطة أيضاً.
أخبرني فلاديمير سلوفيوف (فيلسوف مشهور) إنه يحمل دائماً في جيب سرواله عفْصَ البلوط، لأنها بحسب رأيه علاجٌ جذري للبواسير.
4 ديسمبر. عدتُ إلي مادة عن عرض "النورس" في 17 أكتوبر، في مجلة المسرح، العدد 95، الصفحة75. صحيحٌ أنني فررتُ من المسرح، ولكن عندما انتهت المسرحية فحسب. كنت في غرفة تبديل ملابس ل، خلال فصلين أو ثلاثة. وأثناء الاستراحات توافد موظَّفو مسرح الدولة في زيٍّ موحد، متقلِّدين رُتبَهم؛ وجاء ب أيضاً، وهو ضابط شاب وسيم من مكتب شرطة الداخلية يضع نجمة علي كتفه. حين يأخذ الإنسان علي عاتقه عملاً غريباً عنه، كالفنّ علي سبيل المثال، وإذ يتعذر عليه أن يصبح فناناً، فإنه يتحول إلي ضابط شرطة. كم من الناس إذن يلعبون دور المتطفّلين علي العلم والمسرح والرسم-فقط بارتدائهم الزيَّ الرسمي! وعلي هذا المنوال، فإن الإنسان الذي تغدو الحياة غريبةً عنه، هو العاجز عن العيش، لا يتبقي أمامه إلا التطوع في سلك الشرطة. الممثلات البدينات في غرف تبديل الملابس تظارفن مع المسئولين، ولم يخرجن عن الوقار والمجاملات. (أعربتْ ل عن غبطتها لأن شاباً يافعاً مثل ب قد تقلّدَ النجمة للتو). كنّ ربات منازل محترمات ومُسنّات، خادمات شرّفهن السادةُ بحضورهم.
بين"ثمة إله" و"ما مِنْ إله" يمتدُّ طريقٌ رحبٌ بأكمله يجتازه الحكيم الحقيقي بمشقة كبيرة. يعرف الروسيُّ أحد هذين الطرفين الأقصيين، ولا تستهويه الطريق الوسطي بينهما؛ ولهذا السبب لا يعرف عادة إلا النذرَ اليسير أو لا يعرف شيئاً.
لم أبرَحْ مستوصف أوستروموف من 25 مارس إلي 10 ابريل. كان هناك نزيف واستسقاء في قمة رئتيّ، واحتقان في قمة رئتي اليمني. في 28 آذار جاء ل. ن. تولستوي كي يراني. تحدثنا عن الخلود. رويتُ له خلاصةَ قصة نوسيلوف "مسرح الفوجوليين"، وكان جليّاً أنه يصغي إليّ بمتعة كبيرة.
(الفوجوليون: شعب يقطن منطقة نهر أوبي غرب سيبيريا)
وصل ن. إنه يشكرك دائماً علي الشاي والغداء، يعتذرُ ويخشي تأخره عن القطار؛ إنه يكثِرُ من الكلام ولا يتورّعُ عن ذِكْرِ زوجته مثل ميجنييف لدي جوجول، يدفع إليك بمسودات مسرحيته ورقة تلو الأخري، يقهقه ويشنُّ هجوماً علي منشيكوف الذي "ابتلعه" تولستوي؛ ويؤكد لك أنه سيقتل ستاسيوليفيتش إذا تبجّح هذا الأخير في استعراضٍ عسكري كرئيس للجمهورية الروسية؛ ثم يضحك من جديد وتبتلُّ لحيته بالحساء ويكاد لا يأكل شيئاً؛ وبالرغم من هذا كله يبقي رجلاً في غاية اللطف.
الإنسانية تعي التاريخ بوصفه سلسلة من المعارك؛ ولهذا السبب اعتبرتِ القتال جوهرَ الحياة.
ارتكب سليمان خطأ فادحاً عندما نشد الحكمة.
(عثر بين أوراق تشيخوف علي هذه المناجاة منفصلةً ومكتوبةً بخط يده:
سليمان (وحيداً): آه! يا لهذه الحياة المظلمة! عندما كنتُ طفلاً ما من ليلٍ أرعبني بظلامه كما يرعبني الآن وجودي الخفيّ. يا رب، أما وهبتَ أبي داوود هبة الكلمات والأصوات المتناغمة لكي يترنّم ويحمدك علي أوتاره، في رثاءٍ عذب، ويُبكي الناس أو يدفعهم إلي حبّ الجمال؛ فلماذا وهبتني هذا العقل الجائع المؤرَّق المثقَل بالتأملات؟ أتخفّي في الظلام مثل حشرةٍ وُلِدتْ من الغبار؛ وكياني كلُّه يرتجف ويرتعد في خوفٍ ويأس، أري وأسمع في كلِّ شيء لغزاً خفياً. لماذا هذا الصباح؟ لماذا تُشرق الشمس من وراء المعبد لتذهِّبَ النخلة؟ لماذا جمالُ النساء هذا؟ إلي أين يُسرع العصفور، وما معني طيرانه، ما دام هو وصغاره والمكان الذي يهرعون إليه سيصيرون غباراً مثلي؟ كان خيراً لي لو لم أولَدْ قط أو ليتني كنتُ حجراً لم ينعمْ عليه الله بالعيون والأفكار. وإنهاكاً مني لجسدي عند حلول الليل، حملتُ الرخام إلي المعبد مثل أيِّ عامل طوال نهار أمس؛ ولكن ها قد حلّ الليل الآن ولا أستطيع النوم... سأذهب وأستلقي. أخبرني الفريسيون أنه إذا ما تخيل المرء قطيعَ شياهٍ يركض، ثم ركّزَ انتباهه عليه، اضطربَ الخاطرُ وأخلد إلي النوم، وهذا ما سوف أفعله... (يخرج).
لماذا شقي هاملت بأشباح ما بعد الموت، في حين أن الحياة نفسها مسكونةٌ بأشباح أشدَّ هولاً؟
البنت: لا تليقُ بك جزماتُ اللبّاد.
الأب: بلي، إنها ليست أنيقة، سأجلب أحذية من الجلد.
(مرض الأب فأرجيء ترحيلُه إلي سيبيريا).
البنت: لستَ مريضاً علي الإطلاق يا أبي، انظر، ها أنت ترتدي معطفك وتنتعل جزمتك...
الأب: وددتُ لو كنتُ منفياً إلي سيبيريا، فأجلس في مكان ما إلي جوار نهر أوبي أو ينيسّي وأصطاد السمك، وأصادف في العبّارات مهاجرين ومُدانين صغاراً طيبين... أما هنا فأنا أكره كل شيء: أجمة الليلك هذه أمام النافذة، وهذه الدروب المرصوفة بالحصي....
يخجلُ الرجل اللطيف حتي أمام كلب...
كان الأبناء وهم يكبرون يتكلمون عن الدين أثناء الوجبات، ويسخرون ضاحكين من الصيام والرهبان... إلخ. في البداية كانت الأم العجوز تخرج عن طورها، ثم مع اعتيادها الجليّ هذا الأمر جعلت تبتسمُ فحسب، ولكنها أخبرتهم في النهاية بأنهم قد أقنعوها وهي الآن تشاطرهم الرأي. ارتبك الأبناء وشقَّ عليهم أن يتخيلوا أمهم دون تديُّنها.
أستاذ جامعي، عديم الموهبة وأخرق، ظلَّ يعمل أربعةً وعشرين عاماً دون أن ينجز شيئاً حسناً، ولم يقدّمْ إلي هذا العالم إلا أساتذة مثله في انعدام الموهبة وضيقِ الأفق. كان يقوم بتجليد الكتب في الخفاء ليلاً، وتلك كانت حرفته الحقّة، كان فناناً في هذا المجال ويشعر ببهجة ما يصنع، ثم جاءه مجلد كتبٍ أحبَّ أن يأخذ عنه العلم فدرس علي يديه خلسةً في الليل.
طالبٌ يدعو سيدة إلي تناول الغداء في مطعم، وليس معه غير روبل واحد وعشرين كوبيكاً. تأتي الفاتورة وقيمتها أربعة روبلات وثلاثون كوبيكاً. لا نقود معه فيجهشُ بالبكاء، ويلطمه صاحب المطعم علي أذنه. كان يحدّث السيدة عن بلاد الحبشة.
رجلٌ، إذا حكمنا عليه من مظهره، لا يحبُّ شيئاً إلا السجق ومخلَّل الملفوف.
فقر مدقع، أحوال مزرية. الأم أرملة وابنتها فتاة دميمة. في النهاية تستجمع الأم شجاعتها وتنصح الابنة بالذهاب إلي الشوارع، فهي أيضاً ذهبت إلي الشوارع في شبابها دون علم زوجها كي تلملم نقوداً تشتري بها الفساتين؛ لديها بعض الخبرة في هذا المجال، فتسدي النصحَ لابنتها. تخرج البنت وتجول طوال الليل وما من رجل يأخذها؛ إنها قبيحة. وبعد يومين يأخذها ثلاثة شبان أوغاد من الشارع الرئيسي، ثم تعودُ إلي البيت ومعها ورقةٌ يتّضحُ أنها بطاقة يانصيب منتهية الصلاحية.
أيام الآحاد يذهب ز إلي سوق سوخاريفكا (في موسكو) بحثاً عن الكتب المستعملة؛ يعثر علي كتاب كتبه والده ويحمل هذا الإهداء: "إلي العزيزة ناديا من المؤلف".
يحكي عن سيدة تملك متجراً للقطط، وعشيقها يعذّب القطط بالدوس علي ذيولها.
يعطون الجدّ سمكة لكي يأكلها، فإن لم تسممه وظلَّ علي قيد الحياة أكلتها العائلة كلُّها من بعده.
رسائل متبادلة. يحلم شابٌّ بالتفرُّغ للأدب، ولا ينقطع عن الكتابة إلي أبيه بهذا الخصوص؛ وأخيراً يترك وظيفته المدنية ويقصد بيتربورج، وهناك يتفرّغ للأدب بالعمل في الرقابة.
كان طالب في مدرسة لاهوت ريفية يتعلم اللاتينية ويحفظها عن ظهر قلب. كان يهرع إلي غرفة الخادمات كل نصف ساعة، فيغمض عينيه، يتلمّسهن ويقرصهن فيصرخن ويتضاحكن؛ ثم يعود إلي كتابه من جديد. كان يسمّي ما يفعله "تنشيط الذهن".
دعتْ زوجة المدير موظفاً إلي تناول كوب من الشوكولاته معها وكان رقيقَ الصوت ومعجباً بها، فلم تفارقه غبطةُ ذاك اللقاء أسبوعاً كاملاً. كان قد ادّخر المال وأقرض بعضه ولكن دون فوائد، "لا أستطيع أن أقرضكِ أي مال فصهرك سيبدّده في القمار. كلا، لا أستطيع"، الصهر هو زوج الابنة التي جلستْ ذات مرة في مقصورةِ مسرح متلفعةً بوشاحٍ من الفرو والريش؛ كان يخسر في لعب الورق ويختلس مال الحكومة. الموظف الذي كان معتاداً علي الفودكا وسمك الرنجة لم يسبقْ له أن ذاقَ الشوكولاته قط من قبل، فانتابه الغثيان إثر احتسائها، وكان وجهُ السيدة يفصحُ: "ألستُ عزيزة عليك؟"؛ كانت تنفق أي مبلغ من المال علي شراء الفساتين، ثم تهفو إلي التباهي بها فتقيمُ الحفلات.
الذهاب إلي باريس بصحبة زوجتك مثلُ الذهاب إلي تولا مصطحباً سماوات.
(تولا: مدينة روسية معروفة بصناعة السماورات)
رأي بروفيسور: لا يهمُّنا شكسبير، وإنما الشروحات التي تناولته.
سيدة تشبه سمكة تقف علي رأسها؛ فمها مثل شقٍّ ضيق يودُّ المرء أن يدسَّ قطعة نقود فيه.
وتورّطتْ في الدعارة فاعتادت النوم علي السرير، بينما خالتها المسكينة في دركِ الفقر تستلقي علي السجادة الصغيرة إلي جوارها، وتقفز كلما قرع جرس الباب؛ وعند مغادرة الزبائن تلتمسُ في وجومٍ محزِن "شيئاً من أجل الخادمة". فينفحونها بضعة كوبيكات.
ممرضة مؤهَّلة من مدرسة روجدستفنسكي في بيتربورج، بلهاء وتتحلّي بمثُلٍ عليا. أحبّتْ س، وهو معلّم مدرسة، فاعتقدتْ بأنه الرجل المثالي الغيور علي المصلحة العامة، شأنه شأنُ أبطالِ الروايات والقصص التي شُغفتْ بقراءتها. وشيئاً فشيئاً اكتشفت حقيقته. إنه سكّير طيب كسول، وليس ألمعياً كما اعتقدت. وبعد طرده من المدرسة عاش في كنف زوجته عالةً عليها. كان مثل ورمٍ سرطانيّ استنزفها تماماً. ذات مرة استقدموها لخدمةِ بعض المثقفين الريفيين، ثم جعلت تذهب إليهم يومياًً، فاعتراهم الحرج من إعطائها مالاً، ثم تكلّلَ غيظها بإهدائهم بدلةً إلي زوجها. كان يشرب الشاي طوال ساعات، وبعيشها معه ازدادت هُزالاً ودمامة وبغضاً. كانت تضرب الأرض بقدمها وتصيح به: "اغربْ عني أيها الوضيع". كانت تكرهه، فهي تعمل والناس يقدمون النقود إليه لأنها كعاملةٍ لدي مجلس الزيمستفو لا تنال أيَّ نقود، وأثار سخطها أن أصدقاءهما لا يستوعبونه ويعتبرونه الرجل المثالي.
(الزيمستفو: مجلس إدارة محلي في الأرياف الروسية قبل ثورة أكتوبر 1917).
من يعجز عن استمالة امرأة بقبلة لن ينالها بصفعة.
فيلولوجيّ شاب انصرفَ عن دراسة الجامعة لتوه يعود إلي مسقط رأسه، فيرسمونه وكيلاً للكنيسة. إنه لا يؤمن بالله، ولكنه يرتاد الكنيسة بانتظام، ويرسم شارة الصليب عندما يمر إلي جوار أي كنيسة صغيرة أو كبيرة، ظناًَ منه أن ذاك النوع من التصرفات ضروريٌّ من أجل الناس وخلاص روسيا مرهونٌ به. ثم ينتخبونه رئيساً لمجلس الزيمستفو وقاضيَ محكمةِ الصلح، وتنهالُ عليه الأوسمة والدرجات الكهنوتية؛ ولكنه لا يلحظ أنه قد بلغ عمر الخامسة والأربعين؛ وآنئذ يدرك فجأة أنه كان يمثّل طوال الوقت مستحمقاً نفسه، ولكن فات الأوان علي تغييره نهجَ حياته. وذات مرة في نومه، يسمع فجأة هذه الكلمات كأنها دويُّ بندقية: "ماذا تفعلُ؟" فيصحو مجفلاً غارقاً في العرق.
رجل ثري متعجرفٌ عادة ويتبختر خُيلاءً، ولكنه يحمل ثراءه معه كأنه صليبه. لو لم يقُمِ الجنرالات والسيدات بتوزيع الصدقات علي حسابه، هذا إن لم تكن مخصَّصة للطلبة الفقراء والشحاذين، لكان قد تألم من الوحدة أشدَّ الألم. وإذا ما أعرض الشحاذون عنه، واتفقوا ألا يستجدوا منه شيئاً، مضي ليُحسِنَ إليهم بنفسه.
كانت فتاةٌ، وهي صديقة مخلصة، مدفوعة بأحسن النوايا، تطوف بعريضةٍ تجمع فيها تواقيع المتبرّعين من أجل س الذي لم يكن معوزاً.
أزور صديقاً فأجده يتناول العشاء وبصحبته ضيوف كثر. الجو في غاية الحبور ويفيضُ بالعذوبة، وأنا مسرور بشرب النبيذ والثرثرة مع النساء. فجأة ينهض ن وعليه سيماء الهيبة، كَمَنْ سينفّذُ علي الملأ حكماً بالإعدام، ويلقي خطبة علي شرفي أنا. "ساحر الكلمات... المثالي في الزمن الذي يعزّ فيه المثاليون... أنت تبذُر الحكمة وأشياء لا تفني...". أشعر وكأن غطاء قد انسدل فوقي، ثم أزيح عني الآن وشخصٌ ما يصوّب مسدساً عليّ.
بعد انتهاء الخطاب، علتِ الهمهمات ثم ران الصمت وتلاشي المرح كله. "يجب أن تتكلم الآن"، يقول جاري. ولكن ما عساي أقول؟ كنتُ سأقذفه بالقنينة مسروراً. وأويتُ إلي فراشي وفي روحي بقيةٌ من المرارة. "انظروا أي أحمق كان جالساً بينكم!"
كلما رتّبتِ الخادمة السرير وضعتِ الصندل تحته دائماً لصق الحائط. السيد البدين يوجه لها ملاحظة لأنه ما عاد يطيق تصرفها هذا. ثم ينكشف أن الطبيب قد أخبرها بوضع الصندل في أبعد نقطة ممكنة تحت السرير لكي يُشفي السيد من بدانته.
كلما قرأ في الجريدة عن موت رجلٍ عظيم ارتدي ثياب الحداد.
في المسرح. جنتلمان يسأل سيدة أن تخلع قبعتها لأنها تعترضُ ما يراه. تأفّفٌ واعتراضٌ ورجاءات، وختاماً هذا الاعتراف: "يا سيدتي أنا كاتب المسرحية". فتجيبه: "لا أبالي".
أحبّتْ ز في سنّ العشرين، وفي الرابعة والعشرين تزوّجتْ من ن، لا لأنها أحبته بل لأنها حسبته الرجل المثالي الصالح والحكيم. عاش الزوجان بسعادة وحسدهما الجميع، وقد انسابت حياتهما حقاً هانئة هادئة. كانت راضية، وعندما يتبادلُ الناس الأحاديث حول الحب تقول إن الحب والهيام ليسا ضروريين من أجل الحياة العائلية، وإنما دفء المودة. ولكنها فوجئت بسماع الموسيقي ذات مرة فتكسّر كل شيء داخل قلبها مثل الجليد في الربيع، وتذكرتْ ز وحبها له، ففكرت بيأس أن حياتها قد تهالكت وفسدت إلي الأبد، وهي في منتهي التعاسة. ثم ساورها هذا الإحساس أثناء تهنئات رأس السنة، وعندما كان الناس يتمنون لها "سعادة جديدة" كانت تشتاق حقاً إلي سعادة جديدة.
يذهب ز إلي عيادة طبيب، فيفحصه الأخير ويكتشف أنه مصاب بمرضٍ في القلب. يغير ز نمط حياته علي نحوٍ مفاجيء؛ يتناول الأدوية ولا يسعه إلا الحديث عن مرضه؛ البلدة بأسرها تعرف أن قلبه مريض، وكافة الأطباء الذين يستشيرهم بانتظام يقولون إن لديه مرضاً في القلب. لم يتزوج، وتخلي عن مسرح الهواة وما عاد يشرب الخمر، وعندما يمشي يتباطأ في سيره ويتنفس بمشقة. بعد أحد عشر عاماً يتوجب عليه الذهاب إلي موسكو، وهناك يستشير طبيباً مختصَّاً فيكتشف الأخير أن قلبه سليم تماماً. يفرح ز فرحاً عارماً، ولكن ما عاد بوسعه معاودة الحياة الطبيعية، لأنه قد اعتاد النومَ باكراً والتمهل في المشي، ولا يلبث أن يضجر ما لم يتحدث عن مرضه، والحصيلة الوحيدة هي أنه انتهي إلي كراهية الأطباء- لا أكثر ولا أقلّ.
عندما يلتقط أيُّ فريق صورة فوتوغرافية ينبري ن دائماً للوقوف في الصف الأول؛ وفي المحاضرات هو أوّلُ من يرفع يده بالمداخلات، وأولُ من يتكلّمُ دائماً في المناسبات السنوية. إنه يتعجّب دائماً: "واهٍ الحساء! واه المعجنات!".
كثرةُ الزوار أرهقته ز، فاستقدمَ امرأة فرنسية كي تعيش في منزله بصفتها خليلته. شُدِهتْ السيدات بتصرفه هذا، وما عاد أي زوار يترددون عليه.
قيل لميتيا وكاتيا إن والدهما يفجّر الصخور في مقلع الحجارة، فراودتهما رغبةٌ في تفجير جدِّهما النزِق، فأخذا رطلاً من البارود من غرفة والدهما ليحشوا به زجاجةً زُرعَ فتيلٌ فيها ثم وضعاها تحت كرسيّ جدِّهما أثناء قيلولته بعد الغداء؛ إلا أن عبور الجنود بالقرب من المنزل، وبصحبتهم فرقة موسيقية، كان المانع الوحيد الذي حالَ دون تنفيذ خطتهما.
ثمة رائحة نتنة في الحظيرة: منذ عشر سنين قضي عمال التبن ليلتهم هناك فلم تزايلها رائحتهم أبداً.
ضابط في عيادة طبيب. النقود علي طبق. يري الطبيب من خلال المرآة أن المريض يختلس خمسة وعشرين روبلاً من الطبق يدفعُ بها المعاينة.
تُصنَعُ المثلجات من حليب يُقال إن المرضي قد استحمّوا به.
قلقاً بقلب واجف، يقرع ن باب ممثلة؛ وفي اللحظة الحاسمة ينتابه الهلع فيلوذ بالفرار؛ الخادمة تفتح الباب فلا تري أحداً. ثم يعود ويقرع الباب من جديد ولكنه لا يتجاسر علي الدخول. وأخيراً يظهر البوّاب ويبرّحه ضرباً.
الكلب يكره معلم المدرسة؛ ينهونه عن النباح في وجهه؛ فينظر إليه الكلب ولا ينبح، بل يزمجر بغضبٍ مكبوت.
مريعٌ هو الموت، ولكن الأشد ترويعاً منه هو شعورك بأنك قد تحيا إلي الأبد ولن تموت أبداً.
معلم مدرسة: "لا ينبغي الاحتفال بمئوية بوشكين؛ فهو لم يفعل شيئاً من أجل الكنيسة.".
الوُجَهاء القرويّون تحديداً لا يُطاقون.
جرّاء طيشنا، ولأن غالبيتنا العظمي عاجزةٌ عن التفكير ولم تعتدْ عليه، كما لم تعهدِ النظر عميقاً في ظواهر الحياة، فإننا لن نصادف الناس في أي مكان آخر يردّدون هكذا: "يا للسخف!". ما من مكان آخر تتدنّي فيه آراء الناس إلي هذه الدرجة من السطحية وهذا الاستخفاف بمزايا الآخرين أو أسئلتهم الجدية. ومن جهة أخري ما من مكان آخر يرزحُ تحت سطوة الأسماء بمثل هذه الفداحة كما يحصل بيننا، نحن الروس الذين أذلّتْهُم العبوديةُ قروناً ويخشون الحرية.
المثقف الثري س ذو الأصول الريفية ، ناشد ابنه: "مايك، لا
تخرجْ عن طبقتك. كُنْ فلاحاً إلي يوم مماتك، ولا تصبح نبيلاً ولا تاجراً ولا بورجوازياً. وإذا كان لضابط الزيمستفو، كما تقول، الحقُّ في فرض العقوبات الجسدية علي الفلاحين فليكن له الحق حينئذ في معاقبتك أنت أيضاً". كان معتزّاً بأصوله الريفية ، بل مختالاً بها.
ذات مرة مزّقتِ الكلاب ثيابَ ن. وعندما يلبّي الآن دعوةً إلي أي مكان، يسأل: "هل هناك أيُّ كلاب؟"
"لم أقرأ هربرت سبنسر. حدّثني عن مواضيع كتبه. عمَّ يكتب؟"
" أريد أن أرسم لوحة من أجل معرض باريس، اقترح عليّ موضوعاً"
(سيدة مملّة)
الطبقات اللاهية المدعوة بالطبقات الحاكمة لا تطيقُ البقاء طويلاً من دون حرب. فإن لم تكن هناك أية حرب اعتراهُم الضجر وأوهنهم الفتور واستفزّهم، فلا يعرفون لماذا يعيشون؛ فيتعاضّون ويسعون إلي التقاذف بألفاظ مشينة، متنصِّلين من العواقب إن أمكن، وتبذل صفوتهم قصاري الجهد لئلا تَضجر وتُضجر الآخرين. ولكن عندما تستعر الحرب فإنها تستحوذهم جميعاً وتستولي علي خيالهم، وعندذاك تلمُّ شملهم المصيبةُ العامة.
ليس لوجهها جلدٌ كافٍ؛ فلِكي تفتح عينيها يجب أن تغلق فمها، والعكس بالعكس.
س يتفلسف: "خذْ كلمة "الأنف". ففي روسيا تبدو شيئاً محرَّماً يجتنبون ذِكرَه، ويعلم الشيطان ما معناه؛ قد ينعته المرء بالعضو الفاحش في الجسم، أما في الفرنسية فتعني "الزفاف"". حقاً، كان أنفُ س عضواً فاحشاً.
مطعم. فجأة يخوضُ أندريه أندرييفيتش، وهو برجوازيّ طيّبُ
لسريرة، حديثاً متشعّباً: " هل تعلمون يا سادة أنني كنتُ فوضوياً!" فيبهت الجميع. يروي أ. أ الحكاية التالية: أب صارم؛ افتُتحت مدرسةٌ تقنية في البلدة النائية فأهلُها متلهّفون إلي التعليم التقني؛ ولكن ليست لديهم أية أفكار، ولا يعرفون ماذا سيدرّسون(إذا ما كنت ستجعل من كلِّ الأهالي إسكافيين، فمن سيشتري الأحذية؟)؛ طُرد الشاب ومنعه أبوه من العودة إلي البيت؛ فتعيّن عليه العمل كموظف مساعد يشرف علي ممتلكات أحد الإقطاعيين؛ فاستشاط غضباً ضد الأثرياء والمتخمين والبدناء؛ كان مالك الأرض يزرع أشجار الكرز فعاونه أ. أ، وانتابته رغبة مفاجئة في بتر أصابع المالك البدينة البيضاء بالرفش، وكأن الأمر أملَتْهُ المصادفة؛ فأغمض عينيه وهوي بالرفش في ضربة هي أشدُّ ما يستطيع، ولكنها لم تُصِبْ. ثم غادر المكان إلي الغابة وهدوء الحقول والمطر؛ كان مشتاقاً إلي الدفء، فقصد عمته التي سقَتْه شاياً وأطعمته الحلوي، فتلاشت فوضويته.
وعقب انتهاء القصة، مرَّ ل، مستشار دولة، إلي جوار المائدة. وعلي الفور هبّ أ. أ واقفاً وراح يشرح كيف أن المستشار ل يملك منازل و... إلخ.
وصل س إلي ن للقيامِ بمهمةٍ كُلِّفَ بها هناك، إنه يتغطرس مثل طاغية: يضايقه نجاحُ سواه؛ يتغير تغيّراً تاماً في حضور شخص ثالث؛ وتتغير نبرته إذا كانت ثمة امرأة حاضرة؛ وعندما يسكب النبيذ فإنه يضعُ القليل في قدحه أولاً ثم يسكب للنُّدماء؛ وإذا سار برفقة إحدي السيدات أمسك بذراعها، ويحاول عموماً إبداء الدماثة. لا تُضحكه نكاتُ الآخرين: "أنت تكرّر نفسك"، "لا جديدَ فيما قلتَ". سئمه الجميع، فهو يلقي المواعظ. تنعته العجائز بلقب "القمّة".
رجلٌ يلحُّ دائماً: "لم أُصَبْ بالزهري. أنا رجل شريف. وزوجتي امرأة شريفة".
فتاة صغيرة مغتبطة بعمتها: "إنها جميلة جداً، جميلة مثل كلبنا!"
في رسالة حب: "الطوابع مرفقة من أجل الجواب".
كان بافل طاهياً طوال أربعين عاماً؛ كان يعافُ ما يطبخه ولم يأكل منه قط.
نزعوا عن الجثمان ثيابه، ولم يسعفهم الوقت ليخلعوا قفازيه؛ جثمان مع قفازين.
ضابط جمارك، لشدة شغفه بعمله يفتش المسافرين، ويبحث عن وثائق مشبوهة سياسياً، ويثير حنق حتي رجال الدرك.
تربية: "امضغوا طعامكم جيداً"، أخبرهم والدهم. وكانوا يمضغون طعامهم جيداً، ويتريّضون ساعتين كل يوم، ويستحمون بالماء البارد، ولكنهم كبروا ليصيروا تعساء وبلا موهبة.
تزوج ن ذو الأربعين عاماً من فتاة في السابعة عشرة من عمرها. وفي الليلة الأولي، إثر عودتهما إلي قريته المعروفة بالمناجم، اتجهت إلي سريرها وفجأة أجهشت بالبكاء لأنها لا تحبه. إنه رجل طيب، آلمته محنتها، فذهب لينام وحده في غرفة مكتبه الصغيرة.
(مستطلعاً ألبوم الصور): "مَنْ صاحب ذاك الوجه القبيح؟"
" إنه عمّي".
يا للأسماء الرائعة ( أسماء الزهور): دموع سيدتنا الصغيرةُ، النمنمة، عيون الغربان.
في حفلِ العشاء، انتبه إلي امرأة جميلة فغصّ بما يأكل؛ وبعد قليل لمح امرأة أخري جميلة فغصّ ثانية، وهكذا لم يتناول عشاءه، فقد كان المكان يغصُّ بالجميلات.
طبيب في الريف: "أي مخلوق منكود آخر إلا الطبيب كان سيخرج في مثل هذا الطقس؟" إنه مزهو بما يقول، ويتذمر من ذلك أمام الجميع، ويتباهي بالتفكير أن عمله يتسبّب بالكثير من المتاعب؛ لا يشرب الخمر وغالباً ما يرسل مقالات إلي مجلات طبية فلا تنشرها.
مدام ن تبيعُ جسدها، وتقول لكلِّ رجلٍ ينالها:" أحبك لأنك لا
تشبه باقي الرجال".
مستلقياً في فراشه يقرأ مدير مسرح مسرحيةً جديدة. يقرأ ثلاث صفحات أو أربعاً ثم يرمي بالمسرحية إلي الأرض غاضباً، يطفيء الشمعة ويتدثّر بالغطاء؛ وبعد قليل، إثر تمليه الموضوع، يتناول المسرحية من جديد ويبدأ بقراءتها؛ ثم يستبد به الغضب إزاء هذا العمل التافه المضجر، ويرمي بالمسرحية أرضاً ويطفيء الشمعة. وبعد قليل يتناولُ المسرحية مرة ثالثة ويعاود قراءتها، ثم ينتجها فتلقي فشلا ذريعاً.
الزوجة كاتبة؛ والزوج لا يحب كتابتها، ولكنه من باب اللباقة لا يقول شيئاً ويشقي طوال حياته.
مصير ممثلة: البداية- في عائلة ميسورة في كيرتش، حيث الحياة خاوية وكئيبة؛ ثم خشبة المسرح والفضيلة والشغف المحموم، ثم العشاق؛ النهاية: حاولت الانتحار بالسمّ ففشلت، ثم عادت إلي كيرتش لتعيش في منزل عمها البدين وتستمتع بوحدتها.
تبيّنُ التجربة وجوبَ استغناء الفنانة عن النبيذ والزواج والحمل. سيصبحُ المسرح فنّاً في المستقبل وحسب، أما الآن فهو يناضلُ من أجل المستقبل.
( غاضباً ومستنكِراً): " لم لا تعطيني رسائل زوجتك كي أقرأها؟ ألسنا أقرباء؟"
ن.ن أديب وناقد، واثقٌ من نفسه وحُججه مفحِمة وطليق التفكير، يتحدّث عن الشعر؛ متعالياً يوافق علي آراء الآخرين- وأنا أراه رجلاً دون أي موهبة علي الإطلاق (لم أقرأه). يقترح أحدهم الذهاب إلي آي-بتري. فأقول إنها ستمطر، وننطلق رغم ذلك. الطريق موحل والمطر ينهمر؛ يجلس الناقد إلي جواري فأحسُّ بافتقاره إلي الموهبة. يتزلّفون إليه ويتهافتون عليه وكأنه أسقف. وعندما تنقشع الغيوم، أعود راجلاً. يا للسهولة التي يخدع بها الناس أنفسهم، وكم يحبُّون الأنبياء والعرّافين؛ يا له من قطيع! رافقنا شخص آخر، هو مستشار دولة، في منتصف عمره وصامت لاعتقاده بأنه علي صواب، ويحتقر الناقد لأنه هو أيضاً عديم الموهبة. كانت هناك فتاة تخشي أن تبتسم لأنها في حضرة أناس أذكياء.
لا يبعثُ الممثل بالرسائل إذا اغتني وإنما يكتفي بالبرقيات.
المهرج في السيرك- تلك هي الموهبة، والنادل في سترةٍ سوداء متحدِّثاً إليه- ذاك هو الجمهور؛ النادل الذي تكسو وجهه ابتسامة ساخرة.
"ماذا؟ الكتّاب؟ لو أحببتَ فبقرشٍ واحد سأجعل منك كاتباً".
انصرف الضيوف: لقد لعبوا الورق والفوضي تعمُّ المكان الآن: قصاصاتٌ ودخانُ تبغ، ولا سيّما- الفجر والذكريات.
لِمَ تنمو الأشجار بكلِّ هذا البذخ حين يموتُ أصحابها؟
إذا خشيتَ الوحدة فلا تتزوج.
تزوج وأثّثَ بيتاً واشتري طاولةً للكتابة، ورتّب كل شيء، ولكنه لم يجدْ شيئاً يكتبه.
فاوست: "ما لا تعرفه هو بالضبط ما ترغب فيه؛ وما تعرفه هو ما لا تستطيع أن تستخدمه".
أمل وحيد لدي الروسي: أن يربح مائتي ألف روبل في سحب يانصيب.
أوه، يا للروعة لو أن العازبين أو الأرامل هم الحكّام المنَصَّبون.
اعتاد ن طوال حياته كتابة رسائل نابية للمغنين والممثلين والكتاب المشهورين: "من تظنُّ نفسك، أيها النذل..."، دون أن يوقع باسمه.
بعد تفحّص البناء أقبلت اللجنة المرتشية علي الغداء تلتهمه بشهيةٍ مفتوحة، وكانت تلك بحقّ وليمةَ جنازةِ النزاهة.
أثناء حديثٍ جادٍّ محتدِم يقول لابنه الصغير: "زرّرْ بنطلونك".
يعيش شقيقُ الزوجة مع ن وزوجته، وهو شاب بكّاء يسرق تارةً ويروي الأكاذيب حيناً ويحاول الانتحار في أحايين أخري؛ لا يعرف ن وزوجته ماذا سيفعلان، فهما خائفان من طرده لأنه قد يقتل نفسه؛ إنهما راغبان في طرده، ولكنهما لا يجدان إلي ذلك سبيلاً. يدخل إلي السجن بتهمةِ تزوير فاتورة، فيشعر ن وزوجته بأنهما المُلامان فيبكيان ويحزنان. تموت الزوجة كمداً ثم يموت ن بعدها بوقتٍ وجيز، ويرِثُهما الأخ فيبدّدُ كلَّ شيء ويدخل إلي السجن مرة أخري.
منطق س: أنا أؤيد التسامح الديني ولكنني ضد الحرية الدينية؛ لا يمكن السماح بما ليس أرثوذوكسياً بالمعني الصارم للكلمة.
يبدأون بتداولِ الأقاويل: ن يعيش مع ز؛ ورويداً رويداً يتوافرُ مناخٌ يغدو فيه نشوءُ العلاقة بينهما أمراً لا مناص منه.
كان يقول مبتهجاً مرحاً: "ليَ الشرف بأن أعرّفكَ إلي إيف. إيف. إيزجويف، عشيق زوجتي".
ثمة مكتبة فريدة في الدارة الكبيرة يتحدثون عنها ولا يستخدمونها أبداً؛ يقدمون لك قهوة خفيفةً كالماء لا يمكنُ أن تشربها؛ الحديقة تفتقر إلي الذوق ولا أزهار فيها _ وهم يزعمون أن هذا كلّهُ شبيهٌ بعوالمِ تولستوي.
غاضب من زوجتهِ الممثلة، ودون علمها ينشرُ عنها نقداً جائراً في الصحف.
كان عقلانياً، ولكن تعيّنَ عليه الاعترافُ بأنه يحبّ قرع أجراس الكنائس.
قالت الجدة: "إذا أضعتَ هذه التعويذة فسوف تموت". وفجأة أضعتُها، فعذّبتُ نفسي وخِفْتُ من الموت. والآن، تخيل، وقعت معجزة: لقد عثرتُ عليها وواصلتُ الحياة.
الناس يزدرون ويكرهون كل ما هو جديد ونافع؛ عند تفشي الكوليرا كرهوا الأطباء وقتلوهم وأحبوا الفودكا. من خلال حبّ الناس أو كراهيتهم، يمكنكم أن تحكموا علي قيمة ما يحبون أو يكرهون.
ينظر من النافذة إلي الجثمان المحمول إلي المقبرة: "أنت ميت، لقد شيّعوك إلي القبر، وأنا سأذهبُ وأتناولُ فطوري".
قبيحٌ هو بكاءُ طفل جميل؛ وكذلك الأمر في الأشعار الرديئة التي قد تتبيّنُ في ثناياها شاعراً لطيفاً.
مسرحية هزلية: سعياً إلي الزواج، يدهن ن بقعةَ الصلع علي رأسه بزيتٍ قرأ عنه في أحد الإعلانات، وفجأة يأخذ بالنموّ هناك شعرٌ خشنٌ كَوبرِ خنزير
مستشار دولة. إثر وفاته تبين أنه كان مستخدَماً في المسرح ونبح مثل كلب لكي يجني روبلاً واحداً؛ كان معدماً.
نصحه صديق بإرغام نفسه علي التقيؤ كل يوم، حفاظاً علي صحته.
ممتعٌ هو الجلوس في البيت، بينما المطر ينقر السطح وما من ضيوف ثقلاء مضجرين يأتون لزيارتك.
نزيف: " إنه خرّاجٌ انفجرَ للتوّ في داخلك... لا بأس عليك، تناول المزيد من الفودكا".
لا يصلح المثقّفون لأي شيء، لأنهم يحتسون الكثير من الشاي، ويثرثرون طويلاً في غرفٍ سيئةِ التهوية أمام زجاجاتِ خمر فارغة.
رجلٌ وطنيّ: "وهل تعرفُ أن المكرونة الروسية أفضل من الإيطالية؟ سأثبتُ لك ذلك. ذات مرة، في نيس، جلبوا لي سمكة حفش... أتدري أنني أوشكتُ أصرخُ في وجوههم". ولم يرَ الوطنيُّ أن وطنيته هضميةٌ فحسب.
ساعة حائط. ساعةُ إيجور صانع الأقفال تؤخّرُ الوقت تارةً وطوراً تقدّمه، لكأنها تغيظهُ علي وجه التحديد؛ فهي تتعمّد أن تشيرَ الآن إلي الثانية عشرة ومن ثم الثامنة علي نحوٍ مفاجيء تماماً. مردُّ تقلُّبها هو عدوانيتها وكأن الشيطان يسكنها. يحاولُ صانعُ الأقفال العثور علي السبب، فيغمرها في الماء المقدس.
سابقاً كان أبطالُ القصصِ والروايات (بيتشورين وأونيجين علي سبيل المثال) بعمر عشرين عاماً، أما الآن فلا يمكننا الحديث عن بطلٍ عمرُه أقلُّ من ثلاثين إلي خمسة وثلاثين عاماً. والتغيّرُ نفسه سيطالُ البطلاتِ عما قريب.
يعتقد الكاتب جفوزديكوف أن شهرته واسعة، وأن الجميع يعرفونه. يصل إلي س، فيلتقي ضابطاً يصافحه ويشدُّ علي يده مطوَّلاً، محدقاً في وجهه بكلّ غبطة. ج مسرور، فيبادله دفءَ المصافحة.... وختاماً يقول الضابط: "وكيف حال فرقتك؟ ألست أنت قائد الأوركسترا؟"
ن، ربُّ عائلة، يستمعُ إلي ابنه يقرأ ج. ج. روسو بصوت عالٍ أمام العائلة، فيفكر: "حسناً، علي أية حال، لم يكن روسو يحمل علي صدره وساماً ذهبياً مثلي".
ن. ن. ف لا يوافقُ أحداً في الرأي: " نعم، السقف أبيض، يمكن التسليمُ بذلك، لولا أن الأبيض، كما هو معروف، يتألف من ألوان الطيف السبعة، ومن الجائز تماماً في هذه الحالة أن أحد الألوان فاتحٌ أو داكنٌ أكثر مما يلزمُ لتوليدِ الأبيض الخالص؛ عليَّ بالتريُّثِ قبل الإقرارِ ببياضِ السقف".
أحدهم رأي ز، الملحد والكافر، يصلّي خلسةً أمام أيقونة في الكاتدرائية، فهزأ منه الجميع.
عندما أصبحُ ثرياً سيكون لديّ جناحُ حريم أسكِنُ فيه نساءً سمينات عاريات وأردافهنّ مصبوغة بالأخضر.
لقد حطّمتُ شعورَ جريجوري إيفانونفيتش وأهنْتهُ إهانةً بليغة. فقد استفزّتني الكلماتُ المعسولة واستفزني قائلوها، ولدي وصولي إلي البيت تأملتُ الأمر علي النحو التالي:
البعض يندِّدون بالعالم، والبعضُ الآخر يستهجنُ الجماهير، وفحوي القول مديحُ الماضي وإلقاءُ اللوم علي الحاضر؛ إنهم يزعقون بانعدام القِيم وهلمّ جرّاً، ولكن هذا كله قد قيلَ منذ عشرين أو ثلاثين سنة؛ فهذه صياغاتٌ بالية خدمتْ عصرها، وكلُّ من يردّدُها الآن رثٌّ أيضاً وفاقدٌ نضارته. إذ مع ذبولِ أوراق السنة الفائتة يذوي أيضاً أولئك الذين عاشوا خلالها. فكرتُ، نحن المستهلَكين، غير المتنوّرين، أصحاب الكلام العادي، النمطيون في طموحاتنا، قد عفا علينا الزمن؛ وفي حين أننا نحن المثقفين ننقّب وسط الأسمال المهترئة، ونتعاضُّ بحسب الأعراف الروسية القديمة، تضطرمُ حولنا حياةٌ لا نعرفها ولا نلتفتُ إليها. ستأخذ أحداثٌ جسيمةٌ بتلابيبنا ونحن غافلون، مثل جنياتٍ نائمات، وسوف ترون أن سيدوروف التاجر ومعلمَ المدرسة في يليتز اللذين يعرفان ويريان أكثر منا، سيُقصياننا إلي المؤخّرة لأنهما سينجزان ما لا نقوي علي إنجازه كلّنا مجتمعين. وفكرتُ لو تسنّي لنا الآن نَيلُ الحرية السياسية التي نسهب في الحديث عنها، بينما نحن متكالبون علي تبادلِ العضّ، فلن نعرف ماذا سنفعل بها، سنهدرها في كيل الاتهامات لبعضنا البعض علي صفحات الجرائد بإطلاقِ نعوتِ المخبرين والجشِعين، وسوف نفزع المجتمع بالسفاهة التي تكشف أنْ لا رجال بيننا ولا علم ولا أدب، ولا أي شيء! أيّ شيء! وترويعُ المجتمع علي النحو الذي نقومُ به، ولن ننقطعَ عن القيام به، يعني حرمانه من الشجاعة؛ ويعني ببساطة أن نجاهر بافتقادنا إلي أيّ حسٍّ اجتماعي أو سياسي. وفكرتُ أيضاً، سينقلب مآلنا إلي شمطاوات وعجائز يتوعّدون قبل أن ينبلجَ فجرُ حياة جديدة، وفي خضمّ كراهيتنا لذلك الفجر سنقفُ في مقدمةِ من يُجهِزون عليه.
لا توفّر أمي سانحةً للحديثِ عن الفقر. وإنه لأمرٌ في منتهي الغرابة. ففي المقام الأول، أستغربُ أننا فقراء نستجدي كالمتسوّلين، وفي الوقت نفسه نأكل طعاماً فاخراً ونعيش في منزلٍ فاره؛ وبحلول الصيف نذهب إلي دارتنا الريفية، ولا نبدو كالمتسولين عموماً. يقيناً ليس هذا فقراً، بل شيء آخر، لعله أدهي. ثانياً، أستغربُ أن أمي طوال السنين العشر الماضية قد جنّدتْ كلَّ طاقتها في مجال وحيد هو الحصول علي المال لتسديد فوائد المرابين. ويتراءي لي لو أن أمي أنفقتْ كلَّ تلك الطاقة الرهيبة في سبيل شيء آخر لكان لدينا الآن عشرون منزلاً مماثلاً. ثالثاً، يبدو لي غريباً أن العمل المضني في العائلة تتنكّبه أمي، وليس أنا. وبالنسبة إلي هذه هي القضية الأشد غرابة وشناعة. لديها، كما أسلفتِ القول، فكرةٌ تدور في دماغها، فتتسوّل وتذِلُّ نفسها؛ وديوننا تتراكم يوماً تلو يوم، وإلي الآن لم أقُمْ بأيّ شيء لكي أساعدها. ما عساي أفعل؟ أفكر وأفكر ولا أتدبّرُ أي حلّ. ما أراه جلياً هو فقط انحدرانا إلي مستوي شديد التدني يعلمُ الشيطان أين سينتهي. يقولون إن الفقر يتهدّدنا وإن الخزي صنوُ الفقر، ولكنني عاجزٌ عن فهم ذلك أيضاً، لأنني لم أكنْ فقيراً قطّ.
كانت أولجا إيفانوفنا تتملّي الكراسي والمقاعد والأرائكَ القديمة بذاتِ الحنوّ المتّسمِ بالرزانة الذي تتملّي به الكلابَ والأحصنة الهرمة، ولذلك كانت غرفتها أشبهَ "بملاذٍ" للأثاث. حول المرآة، وعلي كل الأرفف والطاولات، ثمة صورٌ مؤطَّرةٌ لأناسٍ أنصاف منسيين لا يستحقّون أيّ اهتمام؛ وعلي الجدران لوحاتٌ معلَّقة لم ينظرْ إليها أحد قط؛ وكانت الغرفة معتمة دائماً، إذ لم يكن ينيرها سوي قنديلٍ وحيد مشتعل وراء ستارة زرقاء.
كان فيودور مزهوّاً لأن شقيقه قد صادفه جالساً بصحبة ممثل مشهور إلي الطاولة نفسها.
كان الموظفون في مكتب حاكم الجزيرة يعانون من صداع الكحول. إنهم توّاقون إلي الخمر، ولكنهم مفلسون. فما العمل؟ أحد المحكومين، وهو يقضي عقوبته هنا بسبب التزوير، يستنبط خطة. يذهب إلي الكنيسة، حيث يغني ضابط سابق في الكورال، وهو منفيٌّ الآن لأنه لكَمَ رئيسَه علي أذنه، فيقول له لاهثاً: "هيه! لقد صدرَ عفوٌ عنك! لقد استلموا برقية في المكتب!"
فيمتقعُ لونُ الضابط السابق ويرتعد، ويكاد لا يقوي علي المشي من شدّةِ الانفعال.
يقول له الموظف:" ولكن عليك أن تكرمنا بشيء من أجل الشرب لقاءَ هذا النبأ السار".
"خذْ كلَّ ما معي! كلّه!"
ويناوله خمسة روبلات مجزية... يصل إلي المكتب. الضابط خائفٌ من أن يقضي فرحاً فيضغط بيدهِ علي قلبه.
" أين هي البرقية؟"
" لقد أخذها المحاسب". (يذهب إلي المحاسب). ثمة ضحكٌ عميم ودعوة إلي مشاركتهم في الشرب.
" يا للفظاعة!"
ثم مرض الضابط إثر ذلك أسبوعاً كاملاً.
(حكاية سمعها تشيخوف أثناء رحلته إلي جزيرة سَخالين)
كانت لينستشكا تغني دون أن تفتحَ فمها.
إنها تحبُّ الدوقات والكونتات في الروايات وتنفر من الأشخاص العاديين، وتعشق الفصول التي تحفلُ بالحبِّ المثاليّ الصافي البعيد عن الجانب الحسي. لا يستهويها وصف الطبيعة. فهي تُؤثِرُ الحوارات دون الوصف، وينفد صبرها أثناء قراءتها بداية أي كتاب فتلقي بنظرةٍ خاطفة علي نهايته. إنها لا تتذكر أسماء المؤلفين، وتكتب بقلم رصاص علي هوامش الصفحات:" رائع! "جميل!" أو "خيرُ جزاء!"
إنهم يترددون علي المسرح ويقرأون المجلات الرصينة غالباً، ولكنهم مع ذلك حقودون وسَفلة.
خلال النهار أحاديث عن السلوك المتسيّب للطالبات في المدارس الثانوية، وفي المساء محاضرة عن الانحلال وانحطاط كل شيء، وعند حلول الليل، بعد هذا كله، يرنو المرء إلي قتل نفسه.
في حياة بلداتنا لا وجود للتشاؤم ولا للماركسية ولا للحركات السياسية، ليس هناك إلا الركود والحماقة والضحالة.
تتيحُ البطالةُ القسرية الاستماعَ إلي ما يُقال والنظرَ إلي ما يجري؛ أما مَنْ يعمل وينقطعُ إلي عمله فلن يسمعَ ولن يري إلا القليل.
كان يسابقُ ل في حلبة التزلج علي الجليد؛ راغباً في اللحاق بها كمَنْ يريدُ اللحاقَ بالحياة، تلك الحياة التي يعجزُ المرء عن استرجاعها، أو تداركها أو الإمساك بها، عجزَهُ عن الإمساك بظله.
(تصدر اليوميات قريباً عن دار نشر "رفوف" في دمشق)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.