تحدثنا في مقال سابق حول الرقص السياسي والراقص السياسي, وقد أنهينا المقال بالرقص الثقافي والمثقف الراقص, وأشرنا إلي الاعتقاد الساذج, وفقا لقناعات الطفولة والصبا, بأن الثقافة قادرة علي تعديل سلوكيات الإنسان والتأثير علي تصرفاته السلبية. ولكن السنوات العشرين الأخيرة أفصحت عن كوارث عديدة, فقد أنجبت لنا المثقف الراقص الذي يقيم حفلات خيرية من أجل العلاقات العامة وترسيخ فكرة نجوميته المرتبطة بأعمال الخير والمثقف الراقص الجديد يسعي في كل لحظة للتأكيد علي انضباط سلوكياته وتغيير عاداته القديمة وبالمرة الأصدقاء ومن باب التأكيد علي كونه أصبح مثقفا عضويا بمفهوم جرامشي, يمعن في الانتشار عن طريق كتابة السيناريو بعد الرواية, وتقديم برنامج تليفزيوني وجمع التوقيعات لمناصرة عمال الغزل والنسيج وأطفال الشوارع, المثقف الراقص لديه ايضا طموحات سياسية تبدأ بعمل نيو لوك والانتماء لحزب ما والقيام بجولات مكوكية في القري والنجوع. في الواقع, الأمر أكثر تعقيدا ومرارة وخطورة, لأن المثقف كائن خطر بطبيعته بصرف النظر عن انتماءاته الفكرية والأيديولوجية, وهو يسير دائما علي حد الموسي وفقا للتعبيرات الصوفية, فهو حائر دوما بين السلطة والناس والانتماء العقائدي ولقمة العيش ولأن غالبية المثقفين يتوسمون في أنفسهم دورا جرامشيا لا يعرفون منه إلا اسمه فقط يقومون بتفريغ مفهوم المثقف العضوي من مضمونه ويجعلون جرامشي متاحا مثل أبو الليف وشعبولا وبقية الجوقة حتي أن أحمد عدوية وسيد الملاح وآخرين يبدون كلاسيكيين ومرغوبين ومفضلين. هذه الحالة تتأسس بالدرجة الأولي عندما يري المثقف الذي يتصور نفسه عضويا انه عقل الأمة وضميرها, فيحمل نفسه ما لا طاقة له بها, ويفرض علي الجميع اتاوات نفسية وروحية ومادية, وقد تكون الأخيرة لها نصيب الأسد, من أجل التميزوالإبهار وكأنه الراقص الوحيد علي خشبة المسرح معتقدا ان كل جماهير العالم تتابع افكاره وتحركاته والخشبة اصلا معتمة في قرية نائية ليس بها جمهور. المثقف يكتسب دوره ليس فقط من حمل الثقافة والتغني بتاريخها واصالتها, بل من نقل ما اكتسبه من خبرات تراكمت عبر نشاطاته ونشاطات غيره في حالة من الاستمرارية والتواصل والتتابع, وبالتالي تختلف هنا اشتباكات المثقف سواء مع السلطة أو الناس أو الجماعات الثقافية الأخري عن تلك الاشتباكات التي تشتم فيها رائحة المصلحة الخاصة والشخصية التي تتسم بالأنانية وقصر النظر وتكون حجتها الوحيدة لقمة العيش اشتباكات المثقف مع الواقع وتنوعها وثراؤها هي الخطوة الأولي نحو تحقيق مفهوم المثقف العضوي الذي لا يتحقق اصلا وفق سيناريو معد سلفا, بل يخضع لعمليات نفسية وروحية واجتماعية واقتصادية وسياسية معقدة تجعله يدرك ذاته اولا, اما من يقرأ الشخص او يسمع عن جرامشي والمثقف العضوي فيستيقظ في اليوم التالي وقد قرر أن يصبح مثقفا عضويا, فهذا مثير للنكد والمرارة وأولي الخطوات علي طريق الخطر. إن نقل الخبرات نوع من أنواع التواصل والاستمرارية, وهو ضد الانقطاع التاريخي والفلسفي, والاستمرارية شكل من أشكال التطور سواء للثقافة من داخلها او للثقافة في علاقتها بالطلب الاجتماعي, غير أن المثقف الراقص الشامل المسيطر علي كل خشبات المسارح والساحات العامة في المدن والقري والنجوع, والذي يخرج أحيانا إلي نجوع وأزقة الدول الأخري, أفسد الثقافة بمفهومها الواسع, وأصبح قاب قوسين أو ادني من الوصول إلي درجة المفكر الراقص, وعادة ما يطمح المثقف الراقص إلي درجة المفكر ساعيا بذلك لتحقيق الخطوة, فهو يتصور دائما انه قام بدوره تجاه الناس والثقافة وآن الأوان لكي يأخذ حقه, هنا يضع المثقف الراقص( المفكر فيما بعد) نفسه علي مفترق الطرق فيختار النقيض لتحقيق الحظوة, والحظوة لا يجدها عادة عند الناس فيذهب ليتقاضي اجره عند اصحاب الحظوة, كل ذلك مبرر ومتاح ولا يثير الا الشفقة, ولكن ليس من حق المثقف الراقص او المفكر الراقص ان يطالب الناس بحقوق ما بأثر رجعي, عليه فقط أن يسير علي حد الموسي في الاتجاه الذي يحقق له مصالحه. هل كان الكاتب الروسي انطون تشيخوف يخرج في مظاهرات او يوقع بيانات؟ هل كان تشيخوف يقيم حفلات خيرية أو افطارات رمضانية او عشاءات عمل أو حتي حفلات توقيع؟ تشيخوف كان كائنا مسالما لاقصي الحدود مثل الوجه الظاهر لعالمه المسرحي المليء بالبراكين والزلازل, وعندما سافر إلي سيبيريا عاد ليكتب ما يغضب القيصر, لأن القيصر كان قصير النظر وسيبيريا الضخمة المليئة بالثروات كانت جزءا لا يتجزأ من روسيا الأضخم, كانت روسيا وقتها في حاجة إلي رعاية, وكانت سيبيريا في أمس الحاجة إلي تلك الرعاية, فعلها تشيخوف, مثلما فعل غيرها عندما اشتبك في قضية دريفوس, ومات مغضوبا عليه. أما دولة مصر فهي بحاجة إلي كل ثرواتها, وخاصة المثقفين والساسة والمبدعين في كل المجالات, وأنا لا أقصد هنا المثقفين الراقصين او الساسة والمبدعين الراقصين الدولة المصرية في حاجة ماسة إلي تلك العملة النادرة التي تفعل بهدوء وبدون ضجيج, لأن هذه العملة النادرة ستكون رأس المال الأول والحقيقي لتحديد الحدود المصرية من الجنوب إلي الشمال ومن الغرب إلي الشرق, فسيناء لا تقل ثراء عن سيبيريا وغرب مصر طاقة كامنة, وجنوبها جزء من مستقبل البنات والصبيان المصريين, فإذا كان رأس المال الوطني ورجال الأعمال المصريين لم يستيقظوا بعد من المغامرات قصيرة النظر ذات الربح السريع فعلي الثروة الحقيقية ان تنتبه إلي سيناء المصرية العظيمة بثروتها البشرية ومواطنيها المصريين, وتنتبه إلي شاطيء البحر الأحمر بجباله وثرواته, وتهتم بالمواطنين المصريون في غرب البلاد وجنوبها, ليرقص من يرقص وليتعطل البعض عن الرقص, ولكن اطراف البلاد تحتاج إلي رعاية واحترام للمواطنة, بل وتفضيل في المواطنة لتتحدد ملامح البلاد وحدودها, وتبرز السمات الاصيلة للمثقف المصري.