للأدب مفعول السحر وللرقص والسياسة نشوة المحرمات. وميلان كونديرا, الكاتب الفرنسي التشيكي الأصل, في رائعته البطء أبدع في وصف الرقص السياسي في العصر الحديث وقدم مجموعة من الأنماط الفنية التي سوف تخلدها الشخصيات أو الموديلات البشرية الحية في الواقع, فكونديرا لم يتحدث عن أسماء من الواقع الي ولكنه صنع كائنات بشرية من الواقع وللواقع ولا فرق بين سياسي راقص كبير أو صغير. فالراقص الصغير الذي يتحول إلي السياسة, يمارسها من باب ركوب الموجة, والذكي من بين هؤلاء يصنع لنفسه مرجعيات فكرية ونفسية, لإقناع نفسه قبل الآخرين بأنه علي حق. ولكن بمجرد أن تتلاشي الموجة يسرع بإعادة النظر ليس فيما كان يعلنه من قبل, ولكن بالذات في سلوكيات وتصرفات الآخرين, ومن ثم يجد لنفسه المبرر, ومرة ثانية, الأخلاقي والفكري لإعادة النظر في تصرفاته لنجده فجأة يتبني فكرة الطرف الآخر ولكن بلغة لطيفة وبنفس مصطلحاته القديمة, وهو ما يجعله يشق طريقه بنجاح باهر ليحتل مكانة لائقة به لا تتعدي المساحة التي يحتلها الراقص علي خشبة مسرح قروي صغير. أما الراقص الكبير فهو يستخدم جوقة الراقصين الصغار, وخاصة الذين تحولوا من سياسيين راقصين إلي راقصين فقط يتحدثون في السياسة بمصطلحات لطيفة, ويبعدون عن أنفسهم ليس فقط أفكارهم القديمة, وإنما يتنصلون من علاقاتهم بحجة أنهم يعملون, مثلا, في أماكن حساسة. وهذه الأماكن الحساسة هي تلك المساحة الضيقة الخربة من ذلك المسرح القروي الصغير. في مايو2002, قبيل لقاء القمة الروسي الأمريكي في سانت بطرسبورج, أعلنت مقدمة برنامج صباح الخير يا موسكو علي القناة الأولي بالتليفزيون الروسي خبرا اعتبرته في غاية الاثارة, إذ أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن انشغل وقتها بقراءة الكاتب الروسي الأشهر فيدور دوستويفسكي قبيل زيارته لروسيا. وأضافت وهذا علي لسانها بأن الكاوبوي الأول في العالم يقرأ رواية الجريمة والعقاب من أجل فهم الشعب الروسي, ولم تستبعد أن يحاول بوش إدهاش الروس ببعض الجمل من هذه الروايةة لكي يثبت انه واسع الاطلاع والمعرفة بالثقافة الروسية وعقب بث البرنامج توالت تعليقات الروس بما هو معروف عنهم من خفة ظل وسخرية لاذعة: لماذا يجهد بوش نفسه مع دوستويفسكي الصعب الذي مازال غامضا بالنسبة للروس؟ أليس من الأفضل أن يقرأ كتب بوريس يلتسين وميخائيل جورباتشوف, أو علي الأقل إذا كان يستهويه الأدب فليقرأ ما ينشر حاليا لجيل ما بعد البيريسترويكا والإصلاحات؟ ولماذا أصلا يقرأ بوش الجريمة والعقاب بالذات؟ أليس من الأسهل أن يقرأ رواية الأبله وهي لديستويفسكي أيضا؟!! في يوليو2003, ومع تصاعد الجدل حول التقارير الاستخباراتية, سواء الأمريكية أو البريطانية بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية!! قام الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بزيارة خالدة إلي قارة أفريقيا المنكوبة دوما. وظهر بوش علي شاشات التليفزيون العالمية والمحلية في كل دول العالم وهو يمارس أحد أنقي وأروع وأسمي الطقوس الإنسانية: مساعدة الفقراء والمنكوبين والمرضي والأميين, والتضامن مع تلك الشعوب المنسية. وتعززت النصوص الحماسية بلقطات للرئيس بوش مع الأطفال والرؤساء والمسئولين الأفارقة. كانت التقارير التليفزيونية المتوالية عن رحلة الرئيس بوش الخالدة إلي افريقيا, تمثل ترجمة حرفية لمشاهد من رائعة كونديرا البطء. من الصعب أن نعيد كتابة مقاطع كاملة من رواية البطء. ولكن من قرأها سيتذكر علي الفور مغامرات الساسة والمدعين والأفاقين في ملحمة الأرز المجيدة والايدز في افريقيا. وسيتذكر أيضا أسماء مثل دوبركس عضو الجمعية الوطنية والمثقف بيرك. يقول بونتيفان, في الرواية, إن جميع السياسيين هذه الأيام, بداخل كل منهم جزء من الراقص! وجميع الراقصين متورطون في السياسة, الأمر الذي ينبغي ألا يجعلنا نخلط بينهم.. الراقص يختلف عن السياسي في أنه لا ينشد السلطة, بل المجد! ليس لديه الرغبة في أن يفرض علي العالم هذا المشروع الاجتماعي أو ذاك, وإنما في أن يستحوذ علي المسرح لكي يلمع تحت الأضواء, والاستحواذ علي المسرح يتطلب أن تبعد الآخرين عنه, وهذا يلزمه تكتيكات قتالية من نوع خاص. المعركة التي يخوضها الراقص يسميها بونتيفان الجودو الأخلاقي. الراقص يخلع القفاز للعالم كله: من الذي يستطيع أن يبدو أفضل خلقا( أكثر شجاعة, أكثر لطفا, أكثر إخلاصا, أكثر تضحية بالنفس, أكثر صدقا) منه؟ وهو يستغل كل وسيلة تجعله يضع الآخر في منزلة أقل. قد تنشأ ظروف( في ظل الديكتاتوريات مثلا) عندما يكون من الخطر أن تتخذ موقفا معلنا. بالنسبة للراقص, الأمر أقل خطورة عنه بالنسبة للآخرين, لأنه عندما يدخل دائرة الضوء ويكون مرئيا من جميع الزوايا, يصبح في حماية اهتمام العالم من حوله, ولكن هناك معجبيه المجهولين الذين يستجيبون لمواعظه, ونصائحه الرائعة.. الخرقاء.. عن طريق توقيع البيانات وحضور الاجتماعات الممنوعة والتظاهر في الشوارع, هؤلاء الناس سوف يعاملون بلا رحمة, ولكن الراقص لن يستسلم للإغراء العاطفي ويلوم نفسه علي ما جلبه لهم, معتقدا أن الهدف النبيل أهم من هذا الفرد أو ذاك. بعد أن أبدع كونديرا في وصف العلاقة بين الرقص والسياسة, يصبح الأمر تحصيل حاصل بالنسبة للحديث عن الذي يتحول إلي راقص فقط نتيجة لنفس المبررات التي كان يعمل بها في السياسة. هو نفسه, ولأنه بيدق صغير يعلن عن ذلك في صور مختلفة: تبدأ بمراجعة الذات, وتنتهي بالعمل راقصا سياسيا أو ماشابه ذلك, مرورا بتحولات تثير سخرية أعمق بكثير من سخرية كونديرا. كنا نعتقد لسنوات طويلة أن الثقافة قادرة علي تعديل سلوكيات الإنسان والتأثير علي تصرفاته السلبية. ولكن السنوات العشرين الأخيرة أفصحت عن كارثة لا تقل عن كارثة الراقص السياسي. فقد أنجبت لنا المثقف الراقص الذي يقيم حفلات خيرية من أجل العلاقات العامة وترسيخ فكرة نجوميته المرتبطة بأعمال الخير. المثقف الراقص الجديد يسعي في كل لحظة للتأكيد علي انضباط سلوكياته وتغيير عاداته القديمة وبالمرة الأصدقاء. ومن باب التأكيد علي كونه أصبح مثقفا عضويا بمفهوم جرامشي, يمعن في الانتشار عن طريق كتابة السيناريو بعد الرواية, وتقديم برنامج تليفزيوني وجمع التوقيعات لمناصرة عمال الغزل والنسيج وأطفال الشوارع. المثقف الراقص لديه أيضا طموحات سياسية تبدأ بعمل نيو لوك والانتماء لحزب ما والقيام بجولات مكوكية في القري والنجوع. ما يعيدنا بشكل أو بآخر إلي بداية الموضوع والضحك مع كونديرا.