حين كتب المفكّر الراحل إدوارد سعيد مقاله عن الراقصة الشهيرة تحية كاريوكا، بعد أن قابلها في القاهرة 1989، تباينت المواقف والرؤى حيال ذلك، استهجن البعض أن يكتب مفكّر بثقل وحجم إدوارد سعيد عن راقصة شعبية مثل تحية كاريوكا، لا دور لها في الثقافة. صنّف آخرون اهتمام سعيد بالإرضاء، وهو البعيد عن ذلك البعد كلّه. لكنّ إدوارد سعيد كان يعلم ويدرك أبعاد الدور الحقيقيّ الذي تقوم به راقصة شهيرة، وما يمكن أن تقوم به، وقال انّه يكتب عن رمز من رموز الفنّ والتسلية الشعبية التي كان لها دور في الحياة الفنية العربيّة، إذ أنّه ركّز من خلال تأكيده على لغة الجسد على أنّ للجسد المغوي سطوة، وسلطة، لا تقلان عن أيّة سلطة أحياناً، ولا سيّما بعد معرفة التأثير الذي كانت تخلّفه رقصات تحيّة كاريوكا في النفوس، وتشعّب دورها من مسرح الرقص إلى مسرح الحياة، ولم يكن اهتمام سعيد الصادم براقصة شرقيّة وليد مصادفة، لأنّه كان من معجبيها في مراهقته، ولأنّ الرقص الشرقيّ يعدّ وسيلة ذات مفعول مزدوج، من الوسائل التي يمكن النيل بها من الشرق وتقزيمه، أو من الوسائل التي يمكن عبرها تعظيم الشرق، وذلك عندما ينظر إليه على أنّه وسيلة للترفيه فقط، لا يمتّ إلى الفنّ بصلة، ولا يشكّل إرثاً حضاريّاً، يمكن الاستفادة منه.. لا يخفى ما يلعبه الرقص من دور هامّ في الحياة، في حياة مَن يتجاهلون تأثيره، ومَن يفصحون عنه، في الوقت نفسه. وقد جرت العادة أن يكون الرقص الشرقيّ اكسسواراً في الحفلات، متغاضىً عن دوره، على الرغم من تهافت العيون على نهش جسد الراقصة، وتفحّص كلّ ثنياته وتمايلاته. ومع انتشاره في العالم، لم يعد شرقيّاً خالصاً، بل ظلّ ملتصقاً بالشرق كميزة، ما يدفع الكثيرات إلى اللجوء إلى الشرق رغبة في تعلّم الرقص الشرقيّ في موطنه، والاستفادة من خبرة الراقصات الشرقيّات.. عبر التركيز على هذه العلاقة، التي تتضمّن رغبة الغرب في التلاقح مع الشرق، وإن كان عن طريق وسيلة فنّيّة، ينطلق فيلم «ما تريده لولا» للمخرج المغربيّ نبيل عيّوش، بطولة «لورا رامسي، كارمن لبّس»، محاولاً أن يقدّم الاستشراق بصورته المعكوسة الإيجابيّة، الشرق الجاذب لفضول الغربيّين، الشرق الساحر، الشرق المَركز، الشرق المؤثّر، لا ذلك الشرق المتخلّف الذي ينتظر الغرب لينقذه من كوارثه، ولا لاتّخاذ الاستشراق وسيلة للسيطرة والتغلغل. حكاية لولا يصوّر الفيلم قصّة «لولا» وهي فتاة أميركيّة مولعة بالرقص الشرقيّ، تترك عملها كساعية للبريد، لتلتحق بصديقها المصريّ الذي تعرّفت إليه في نيويورك، ونشأت بينهما قصّة حبّ لم تدم طويلاً، لأنّ الشابّ أدرك أنّها لن تتخلّى عن ولعها بالرقص، وهو لا يستطيع انتظارها سنوات طويلة كي يؤسّس عائلة. يعود الشابّ الذي ينهي دراسته في نيويورك إلى مصر. وعندما تكتشف لولا سفره، تقرّر اللحاق به، تبيع مقتنياتها كلّها لتتمكّن من قطع تذكرة الطائرة، تذهب إلى بيته، تستقبلها أمّه بالترحاب، وعندما يأتي الشابّ مساءً، يتفاجأ بها، يصدّها عندما تحاول الارتماء في احضانه وتقبيله، ثمّ يحاول مداراة الموقف، يأخذها إلى الفندق، يبقى معها ليلة، ثمّ يطلب منها أن تعود إلى نيويورك، يتحدّث لها عن الاختلاف الصادم بين البلدين، يروي لها التنافر في السلوكيّات، والمعايير التي يتمّ بها الحكم على المرء، لكنّها لا تقتنع بكلامه، ترمي إليه بالنقود التي يتركها لها، كما ترمي بتذكرة الطائرة التي حجزها لها، ترفض أن تكون ساقطته، تقرّر البحث عن حلمها، الذي يتجسّد في تعلّم الرقص الشرقيّ في موطنه الأصليّ، ومن راقصة تعرّفت إلى رقصها العجيب الذي أذهب عقلها، وذلك عند صديقها المصريّ الآخر في نيويورك، حينذاك كانت قد قرّرت تعلّم الرقص الشرقيّ على يدي تلك الراقصة «أسمهان»، التي تجسّد دورها الفنّانة اللبنانيّة كارمن لبّس التي أبدعت وبرعت في الدور، ولحين الاستدلال عليها تتسلّى بالرقص في ملهى ليليّ، ثمّ تبحث عن أسمهان التي تكون قد اعتزلت الرقص وابتعدت عن الأضواء، بعدما التقطت لها صورة مع أحدهم وهي في وضع شائن، فكانت أن وُصفت بالمنحلّة والخائنة، وتعرّضت للتهميش والإقصاء، وظلّت مصدر الشؤم والسوء والخيانة. ترفض أسمهان بداية تعليم لولا، لكنّها تتراجع أمام إلحاحها، ثمّ لا تلبث أن تتعاطف معها، بعدما تعيدها لولا شيئاً فشيئاً إلى الواقع، حتّى تنجح في إزالة الستار الأسود بينها وبين المجتمع، فتوصل إليها تحيّات بعض الأصدقاء، وثناءهم عليها، كما تكون صلة الوصل بينها وبين العالم الخارجيّ، الذي يقدّر فنّ أسمهان، لكنّه يبالغ في النيل منها على سلوكها الطائش الذي قامت به.. بعد عدّة دروس، تتطوّر لولا بسرعة مذهلة، يكتشفها مدير فرقة رقص «ناصر راضي» الذي يحاول جذبها إلى فرقته، تصدّه بداية خشية من أنّ يكون مبيّتاً التحرّش بها، لكنّها تفرح عندما تكتشف أنّه يقول الحقيقة، يتفاجأ بطلبه منها أن ترقص في حفلة زفاف أحد أبناء المشاهير في مصر، وعندما تقول لولا لأسمهان ذلك، ينتاب أسمهان شيء من عدم الرضا، تحدّثها قليلاً عن ناصر، ثمّ تترك لها حرّيّة الاختيار والقرار، تخرج لولا إثر ذلك من عندها محبطة قليلاً، لكنّ العجوز الذي يعمل في بيت أسمهان، يخبرها بأنّ ناصر رجل شريف، وبأنّه إذا قال لها انّها ستبرع فإنّ ذلك يعني أنّها ستبرع بالفعل. كما يحدّثها العجوز عن أسمهان وبراعتها في الرقص، يروي لها بعض الحكَم والعبَر، وفي يوم الزفاف، تطلب أسمهان من لولا الاستعجال لشراء ثوب الرقص، تكون فرحة لولا كبيرة، تصرّ على أسمهان للتسوّق معها وانتقاء الفستان لها، تتراجع أسمهان أمام إصرارها وإصرار العجوز وابنتها، وعندما تختار لها فستاناً مناسباً، تساوم البائع على ثمنه، يخفّض البائع لها في السعر، ويهديها فستاناً آخر، تقديراً منه لها، واعترافاً باستثنائيّتها، ما يعيد إليها ثقتها بنفسها، ويفسح لها مجالاً لتعيد ترتيب علاقاتها واندماجها مع واقعها.. بين الشرق والغرب يحاول الفيلم أن يرصد العلاقات المتشابكة التي تربط الولايات المتّحدة بالعالم العربيّ، من خلال وسيلة فنّيّة، تكون نقطة اتّفاق وتلاقٍ بين الجميع، لا خلاف عليها، يُؤثر عدم الخوض في القضايا الإشكاليّة الكثيرة، وعلى الرغم من أنّه يقع في مطبّ البحث عن مصالحة واجبة، لا تكون بتلك البساطة التي يقترحها، لكنّه يبقى مقترحاً جماليّاً، واجتهاداً سينمائيّاً.. يُخرج فيلم «مهما أرادت لولا» الرقص الشرقيّ من تلك الغرف المغلقة، ومن تلك الأقبية التي تحتكره من خلال الاعتماد على الأضواء الخافتة، التي تفضح الأجواء، وتفصح عن النيّات، ليعمّم المستور، ويكشف عن المخبوء.. يأتي الفيلم، ليزيح النقاب عن بعض تلك الأسرار التي تغلّف الرقص الشرقيّ، وتبقيه طيّ الكتمان، بحيث تضفي عليه هالة من الاستجنان، وعلى الأجواء المصاحبة له حالاتٍ وهالاتٍ من الصخب الممتع الذي يُتغزَّل به.. أي يعلن حديث السرّ، ولا يتكتّم عليه، مع بعض المبالغة في ردود الفعل إزاء الراقصة «أسمهان»، وهذا يعتبر في العرف المتّبَع خروجاً على المألوف، خاصّة أنّ الثقافة العربيّة تحاول في كثير من الأحيان الالتفاف على التسميات بعدم التصريح بها، بل الاكتفاء بالإيماء إليها أو الإيحاء بها.. يبتعد الفيلم عن فكرة تسويق الجسد أو تسليعه، بل يحاول ردّ الاعتبار إليه، يوصل رسالة تقول إنّه لا بدّ من الإقرار بأنّ الرقص الشرقيّ يسكن كلّ بيت، ويستصدر القرار في كثير من الأماكن. كما يمكن القول إنّ الفيلم يخاطب الدواخل، يثير المكنونات، يثوّر الرغبات التي يستحيل إشباعها، لا بالنظر من دون حذر، ولا بالجهر من دون تكتّم.. حيث الانثناء والانحناء والتطاير تغزو العيون وتدخل المستقرّ.. لم يأبه صنّاع الفيلم لتلك المقولات التي تبقي الشرق رهينَ الرقص ومجالس الأنس، ولا أسير عوالم ألف ليلة وليلة، بل خالفوا القول، خلطوا الشرقيّات بالغربيّات، فكانت اللوحات الساحرة المؤدّاة، التي تصرّح بأنّ الرقصَ امتياز شرقيّ مفتخَر به، كما يغدو الرقصُ الشرقيّ وسيلة استشراقيّة معاصرة، تقرّب، وتحبّب، لا تنفّر أو تكرّه.. ولولا الدور الهامّ الذي يلعبه الرقص في حيواتنا، لما توقّف إدوارد سعيد عند تحية كاريوكا وكتب عنها ما كتبه.. ناقداً وكاسراً الادّعاءات الاستشراقيّة التي حاولت أن تبقي الشرق بتلك الصورة المقوْلَبة التي يريدها الآخرون عنه.