أسئلة عارية.. تخدش الحياء. وإجابات أكثر عريا.. تصيب الناس بالكساح. المواطن المصري كان يري وطنه وثقافته ومثله العليا والأنوثة المحتشمة في رقصات تحية كاريوكا. ولذلك فعندما كنا نتوجه لمشاهدة سيدة الرقص الشرقي وهي تتحرك ببدلة الرقص المحتشمة.. كنا نفعل ذلك بدوافع وطنية وقومية أولا.. ثم.. فنية.. ثانيا. الوطنية.. كانت تدفعنا لتشجيع المنتجات الوطنية.. ولذلك فعندما كانت تحية كاريوكا.. ترقص.. كانت في الواقع تمارس العمل السياسي.. البعيد عن العنف والقتل.. ودس المتفجرات وتربية الذقون من باب تخدير الجماهير واستغفالها.. إلخ. كانت ترقص من أجل تذويب الفوارق بين الطبقات! لم تكن تحية كاريوكا.. ترقص لطبقة واحدة.. تمتلك الأرض والبشر.. وإنما كانت ترقص لكل الطبقات في عدالة رائعة للتوزيع. كانت تتحرك علي المسرح.. بمنتهي الحساب.. وبلا إسراف.. وكل حركة لها قيمتها.. ولكنها كانت تعطي لجمهورها.. بسخاء. كانت تعطي له دروسا في أصول الحب.. وهو عطاء أقرب لعطاء الأم لأطفالها. أم كلثوم كانت تعطي.. طبعا.. وكانت تعلم الناس الحب بكل تأكيد.. ولكنه عطاء يعتمد علي السمع.. وعلي منفذ الأذن.. وليس مطلوبا منك.. ولا في وسعك التدقيق طويلا في أنوثة سيدة الغناء.. ولا حركاتها.. ولا تلاعبها بالجسد الذي يتحرك بحساب.. ما تحدده الكلمات والمعاني السامية. كان عطاء أم كلثوم.. ولايزال هو عطاء للكبار الذين أشقتهم التجارب وطال بهم الانتظار وذاقوا مرارة الحب وعذابه.. والظلم وقساوته إلخ. أما عطاء تحية كاريوكا.. فكان عطاء لمجموعة من الأطفال في حضانة الحب.. أو سنة في أولي حب. عندما تراقب الرجال الذين يجلسون في كازينو بديعة.. وهي مدربة الرقص الشرقي الأولي ومكتشفة المواهب.. تلاحظ أنهم يتحولون بمجرد ظهور تحية كاريوكا لمجموعة من الأطفال «كبار السن».. لسبب بسيط.. «عرفته فيما بعد».. وهو أن الرجال يحملون شيئا في طفولتهم.. كلما تقدم بهم العمر.. ويظلون أطفالا لآخر نفس يستنشقونه.. فوق الأرض. وتلاحظ أيضا أن الأطفال يرتبطون بالأم.. أكثر من ارتباطهم بالأب.. لماذا؟ لأن الأم لا تعطي لأطفالها ما يستحقونه.. وإنما تعطيهم ما يحتاجونه. وكانت كاريوكا تسير علي هذا المنهج.. وبالتالي فقد كانت تقدم لزبائنها ما يحتاجونه وليس ما يستحقونه. تقدم لهم ما يحتاجونه.. ولكن بحساب. لم تكن تحية كاريوكا.. تعطي بسخاء علي نمط الثقافة الغربية، وإنما كانت تعطي عطاء الخائف علي ضياع الثروة.. وعدم التفريط في الأجزاء المتحركة من جسدها. وكانت تحية كاريوكا.. وسكناتها علي المسرح.. كانت تتسم بالسلاسة.. ولم تكن تعتمد علي كثرة الحركات وإنما علي قلتها. كانت تقف رابطة الجأش.. وهي تحرك سلاسل الفضة الملتفة حول جسدها.. مع الخرز المنسدل فوق خصرها، في انتقال مبهر بين علم الديناميكية والاستاتيكية. بين الحركة وبين السكون.. مع انضباط متقن بإيقاعات التخت الشرقي وأصابع «الطبال» التي تتغلغل في الجسد المحتشم الذي يشق علي النفس الانصراف عنه لسواه.. من سكون لسكون.. ثم إلي حركة محسوبة.. ثم إلي وقفة فيها الكثير من البذل والعطاء من الأجزاء المتحركة في الجسد الممشوق. هكذا كانت ترقص تحية كاريوكا.. فتطيل من لحظات السكون.. إطالة من يطيل الركوع في الصلوات.. فتثير فضول الرجال الذين لم يفطموا بعد. وكان الرجال الذين لم يفطموا بعد في حاجة لما تقدمه لهم تحية كاريوكا.. من دروس في الحب.. ومن عدالة التوزيع. كانت سيدة الرقص الشرقي.. تلقن الأمة دروسا في الحب الأمر الذي انعكس بدوره علي احترام المرأة.. وحمايتها في شوارع وسط البلد.. والمواصلات العامة. كان كل مواطن يعتبر كل سيدة.. هي أمه هي تحية كاريوكا! كانت ترقص علي المسرح.. وفي العديد من الأفلام السينمائية التي تدخل الرقصات في سياق أحداثها من باب الترويج والإمتاع للمشاهد الذي لا يعرف الوجه الآخر من الصورة. وجه المناضلة تحية كاريوكا. لقد ولدت تحية كاريوكا في الإسماعيلية.. وشدت الرحال إلي القاهرة.. لتمارس السياسة والرقص الشرقي معا ويقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد إنها كانت شديدة القرب من الحزب الشيوعي في الأربعينيات والخمسينيات وأطلقوا علي هذه الحالة مصطلح «تغلغل الرقص الشرقي في الحركة الشيوعية المصرية». ويقول إدوارد سعيد.. إن تحية كاريوكا.. ظهرت في أثينا سنة 1988 ضمن مجموعة مصرية وأخري عربية من الفنانين والمثقفين الذين شاركوا في الانضمام إلي السفينة الفلسطينية «العودة» التي أريد بها أن تكون المثال المعكوس من رحلة «الاكسودس» إلي الأراضي المقدسة.. وأنه بعد أسبوعين من الصعوبات والعثرات المتواصلة قامت المخابرات الإسرائيلية بنسف السفينة.. وتم إلغاء المشروع. ويمضي إدوارد سعيد في روايته إلي القول: إن تحية كاريوكا ظهرت في تلك الأيام كواحدة من قيادات العملية.. ولم تكن مجرد مشاركة مثل عشرات الفنانين والمصورين والمخرجين العرب.. الذين خاضوا تجربة مشحونة بالمخاطر.. وسط قوات إسرائيلية محتشدة ومتربصة. كانت تحية كاريوكا تضع يديها وسط خصرها.. وتقذف بالتعليمات: - كل واحد يقعد مطرحه.. مش عايزة وجع دماغ! وكان كبار الأدباء والفنانين يستمعون لأوامرها.. استماع الطفل لنصائح الأم، وعندما يتقدم أحد لمناقشتها تقول له: مش عايزة مقاوحة! ولذلك فإن تحية كاريوكا.. كانت أكبر بكثير من مجرد راقصة شرقية تشغلها الأجزاء المتحركة من جسدها إذ كانت ملحمة شعبية تحمل رتبة «عالمة». كل هذا التاريخ أغفله تليفزيون الفقي.. ولم يضع مناسبة مرور 11 سنة علي وفاة تحية كاريوكا وضعها الصحيح.. لانشغاله بالبرامج الحوارية التافهة.. ومنوعات الخلاعة!