عادت قضية طبيعة ملكية الصحافة: للدولة أو للقطاع الخاص أو الأحزاب أو للشعب بالاكتتاب العام، إلى صدر المشهد الصحفي في مصر في أعقاب إقالة الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير جريدة الدستور التي أسسها (تحريرياً) في إصدارها الأول وصارت نموذجا للصحافة الخاصة التي تتمتع بسقف مرتفع أو مفتوح من الحريات، حتى وإن لم تنج من موائمة الإدارة بين ذلك وبين ارتباطات التوزيع والاتفاقات الخاصة به وما يترتب عليها من توجهات سيئة أو جيدة، فاتحا طريقا جديدا للصحافة الخاصة أو "الحلم" الرأسمالي في الصحافة، ثم أعاد الكَرة في الإصدار الثاني مقدما نفس النموذج ولكن في منافسة ضارية مع صحف خاصة أخرى كثيرة نشأت ونمت في فترة غياب جريدة الدستور. عادت القضية في صورة مركزة تتعلق بسلطة الملكية في مواجهة الضمير الصحفي. ففي الصحف القومية العتيدة المملوكة للدولة والتي اختارت أن يمثلها في الملكية هيئة ذات طابع تشريعي هي مجلس الشورى الذي يتحكم في تعيين القيادة التحريرية والإدارية للصحيفة ويمسك بيده حقوق المالك إزاء تلك الصحف، تبدو مسألة تأييد الصحيفة للحكومة في كل القضايا الجوهرية أيا كانت درجة صواب موقف الحكومة، أمرا معتاداً، مع ترك مساحة لقراءة الواقع أو نقده بصورة مخففة ولطيفة، أو طرح حلول بديلة للمشاكل الحياتية الجزئية وليس للسياسات الرئيسية للدولة، في صفحات التحقيقات والحوارات، مع وجود مساحة أكبر للحرية في صفحات الرأي أو صفحات مراكز البحث العلمي المستقلة مثل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام على سبيل المثال. ويكون موقف كل كاتب في صفحات الرأي أو المراكز المتخصصة، نابع من خياراته مع رقابته الذاتية على نفسه، حتى لا يتعرض لرقابة أكثر شدة من قِبل الإدارة التحريرية للجريدة، إذا لم يمارس هذه الرقابة الذاتية بالصورة "الواجبة". كما أن سوء أو حسن المادة التحريرية ومدى توافقها مع ميثاق الشرف الصحفي وعدم خلط الإعلان بالتحرير، والانتصار للحقيقة، يتوقف في الكثير من الأحيان على قبول الصحفي أو رفضه للارتباطات المصلحية الفاسدة مع بعض الرأسماليين أو مع بعض الجهات التنفيذية، وليس بالضرورة نتيجة ضغوط مباشرة من إدارة الصحيفة نفسها. وإن كان سماح بعض الصحف للصحفيين بجلب الإعلانات أو إعداد صفحات ذات طابع إعلاني في حقيقتها وممولة وتحت رعاية جهات حكومية أو رأسمالية خاصة، قد خلق موجة من الولاءات الفرعية والتجاوزات لميثاق الشرف الصحفي. كما أن الصحفيين المتمسكين بميثاق الشرف الصحفي في العديد من الصحف القومية، يكونون في وضع مالي غير لائق ولا يتناسب مع مهنة ضميرية تؤثر في الرأي العام وتوجهه، إذا لم تكن لهم أعمال أو مصادر دخل أخرى. لكن هذه الصحف القومية تبقى رغم ذلك لديها قواعد واضحة نسبيا، ويمكن للصحفيين فيها أن يطوروا دورهم كجزء من ضمير الأمة وكرقيب على الحكومة وأجهزة الدولة، بإصرارهم على رفع سقف الحريات، والكفاح السلمي من أجل الحصول على دخول تكفي لحياة كريمة من خلال توزيع عادل لمخصصات الأجور وما في حكمها، وزيادة تمويل الدولة للصحف القومية بصورة مباشرة من خلال الإعانات، أو غير مباشرة من خلال الإعلانات وتطوير كفاءة الإدارة، باعتبار أن هذه الصحف تقوم بدور إعلامي وثقافي وتنويري أهم كثيرا من الاعتبارات المالية في بلد يسعى للنمو والتقدم. أما الدعاوى الرديئة لخصخصة هذه الصحف، فإنها إذا حدثت ستنتهي بها إلى أيدي القادمين من الاقتصاد الأسود والفاسدين لاستغلالها في حماية نشاطاتهم وفسادهم، كما حدث في الكثير من بلدان شرق أوروبا وروسيا التي سقطت غالبية الصحف فيها عند خصخصتها في أيدي المافيا! أما الصحف الحزبية فإنها من المفترض أن تعبر عن مواقف الأحزاب التي تصدرها وأن يكون تمويلها من التوزيع، أي من بيع الصحيفة لأعضاء الحزب وأنصاره إضافة إلى الجمهور غير الحزبي الذي يرى فيها صحيفة جيدة، بسعر يفوق تكلفتها الشاملة بما يحقق لها التوازن المالي. لكن محدودية توزيع الصحيفة بسبب ضعف النفوذ السياسي للحزب، أو ضعف كفاءة الإدارة التحريرية أو الإدارة الاقتصادية الشاملة أو كل تلك العوامل معا، وحاجتها بالتالي للتمويل من مصادر غير التوزيع، وضعف رواتب الصحفيين فيها، والتعيينات غير المرتبطة بعضوية الحزب والولاء له، جعلت العديد من تلك الصحف يُُصاب بخلط الإعلان بالتحرير، وبتكييف مواقف الصحيفة وبعض الصحفيين بشأن قضايا معينة، مع مصالح مصادر التمويل أو المُعلنين أو الجهات التنفيذية التي تقدم لهم مصالح تفسد التزاماتهم الضميرية إزاء القراء. وليس لهذه الصحف من حل جوهري إلا في حالة تعزيز حيوية الحزب ونفوذه السياسي، حتى لو اقتضى الأمر إعادة هيكلته، وتحسين كفاءة الإدارة التحريرية مهنيا ورفع سقف الحريات في الصحيفة في إطار التعبير عن الحزب ومواقفه، وتحسين الإدارة الاقتصادية الشاملة للصحيفة، والمطالبة بالحصول على دعم غير مشروط من الدولة، وعلى حصص غير مشروطة من إعلانات الحكومة وأجهزة الدولة، تتناسب مع حصة الصحيفة من توزيع الصحف، كحق عام لأحزاب المعارضة التي تشارك هي وأنصارها في تمويل المالية العامة للدولة بشتى الصور. أما الصحف الخاصة المملوكة لبعض الرأسماليين، والتي يحلو للبعض أن يسميها مستقلة، وهي لا يمكن أن تكون كذلك لأنها مرتبطة بمالك له مصالح وارتباطات داخلية وخارجية معلنة وغير معلنة، يمكن أن تجعله يتركها "مستقلة" في بعض الأحيان ليكسب من توزيعها وجمهورها، وأن ينقض على هذه الاستقلالية في أحيان أخرى إذا اقتضت مصالحه وتحالفاته ذلك، أو حتى يبيعها كلية لتاجر أو مشتري يختلف تماما عن خط وتوجهات الجريدة والتزاماتها الضميرية إزاء القراء والصحفيين العاملين فيها، لتبقى الصحافة المستقلة الحقيقية هي الممولة باكتتاب عام مرتبط بتوجه تحريري والتزامات ضميرية وقيادات صحفية معروفة، وله سقف لا يحقق لأي مُكتتب أو مجموعة مُكتتبين سيطرة على رأسمال الجريدة. وهذه الصحافة المستقلة لن تتحقق سوى بكفاح حقيقي من الصحفيين المنتمين لمهنة الصحافة كضمير للأمة ورقيب على الحكام والمجتمع، ينتصر للحقيقة والعلم ومصلحة الوطن ومقتضيات التقدم والتنوير.