في أدبيات الكنيسة والفكر المسيحي مقابلة رئيسة بين الكنيسة والعالم، أو جماعة المؤمنين والعالم. والتي تعني أن الجماعة المسيحية ليست من هذا العالم، لا تجاريه في ما يفعل، ولا تتخذ منه مثالا أو تتشبه به، لأن الجماعة المسيحية لها نموذجها الخاص الملتزم بتعاليم المسيحية، وتقدم مثالا أمام العالم، للنموذج المسيحي الشاهد للمسيحية. والكنيسة هي التي تمثل الجماعة المؤمنة وتحتضنها وترعاها، وتحافظ علي تماسكها وتميزها كشاهدة للمسيحية. فالكنيسة هي الحاضنة الأولي للمسيحية، وهي بيت المسيحية التي ترعي الدين وتحافظ عليه وتحمي عقيدته، وتحارب كل الأخطار التي تتعرض لها المسيحية. تلك المقابلة بين الكنيسة والعالم، أو جماعة المؤمنين والعالم، تتمدد أحيانا في المجال السياسي والاجتماعي بصور عدة. ففي الغرب نجد أن الكنائس التي تقود حركة الإحياء المسيحي، تعتبر العالم هو النظام العلماني المحيط بها، والذي يمثل خطرا علي المسيحية وعلي المسيحيين أنفسهم. لذا تحاول الكنائس حماية المسيحي في الغرب من التأثر بقيم وأخلاق العلمانية. وفي نفس الوقت، كانت فكرة الفصل بين الكنيسة والعالم، هي الفكرة التي استخدمت للترويج للعلمانية في الغرب، بحيث تبقي الكنيسة هي حامية المسيحية، وتحضر المسيحية في الكنيسة، أما النظام العلماني فيحضر في الدولة، وتظل الدولة حامية له. وبهذا تم اقتسام القيم بين الدولة والكنيسة. ولكن تمدد العلمانية في المحيط الاجتماعي هدد الكنيسة بعد ذلك، بل وهدد الحضور المسيحي في الكنيسة وفي المجتمع، مما جعل كنائس الإحياء المسيحي في الغرب، تبدأ عملية تحصين للمسيحيين من تأثيرات العلمانية فيهم، أي من تأثيرات العالم. ومع حركة الإحياء المسيحي في الغرب، بدأت محاولة نشر القيم المسيحية في هذا العالم المختلف، بصورة تؤدي إلي تقليص القيم العلمانية لصالح القيم المسيحية، وهي مرحلة خروج المسيحي من الكنيسة إلي العالم، مبشرا بقيمه وفكره وعقيدته. ولكن هذه المقاربة تأخذ صورا أخري في حالة الجماعات المسيحية التي تعيش في مجتمع أغلبيته غير مسيحية. حيث يصبح العالم ممثلا لجماعة لا تدين بالمسيحية، ويصبح الفصل بين الكنيسة والعالم، هو فصل بين الجماعة المسيحية والمحيط الذي تعيش فيه. ومساحة الفصل تتغير من مرحلة تاريخية إلي مرحلة أخري. فالكنيسة في المجتمع الإسلامي، تقوم بحماية الجماعة المؤمنة، وتعاليمها تؤكد أهمية دور الشهود لهذه الجماعة في العالم المحيط بها. ولكن الذي يتغير هو موقف الكنيسة من العالم، أو موقف الجماعة المؤمنة من العالم. ففي المراحل التي تتوتر فيها علاقة الجماعة المسيحية بالمجتمع المحيط بها، كما في الحالة المصرية، يصبح العالم ممثلا لمحيط غريب، تحاول الجماعة المسيحية تجنب التعامل معه أو التأثر به، ولا يصبح دورها في الشهادة دورا تفاعليا إيجابيا، بقدر ما يصبح دورا انعزاليا. وهناك فرق بين رغبة كل فرد مؤمن في الشهادة لعقيدته، وبين محاولة إقامة أسوار وجدران بين المؤمن وبين العالم المحيط به. ففي حالة الشهادة الإيجابية، يتفاعل المسلم والمسيحي، وكل منهما يحاول إبراز قيمه الدينية بصورة إيجابية أمام الآخر، فتسود القيم الدينية وتقوم علاقات إيجابية. ولكن في حالة بناء الأسوار الحامية، يحاول المؤمن إبراز تميزه عن غيره، وعدم انتمائه للآخر بكل الصور، حتي يبقي في حالة نقية، دون ذوبان في المحيط، ويصبح منشغلا ليس فقط بما يميزه عن العالم، ولكن يصبح منشغلا أساسا بفصل نفسه عن العالم. فإذا حدث هذا في ظرف التوتر الديني والنزاع العنيف، كما يحدث في مصر، نصبح أمام رؤية تبني أسوارا فوق الأسوار القائمة، وتمنع فتح الباب أمام التعامل والتفاعل الإيجابي. وتتطور فكرة الكنيسة والعالم إلي مساحات أخري، حيث نجدها تقترب من مسألة الهوية. فبما أن الكنيسة وجماعة المؤمنين ليست من هذا العالم، ولا هويتها من هذا العالم، فهي تعيش في مجتمع غريب عنها، وعليها أن تضع القواعد التي تنظم التعامل مع هذا العالم الغريب والمفارق لها والمختلف عنها. وهو ما يجعل المقابلة بين الكنيسة والعالم تتحول إلي مساحات الفعل الاجتماعي والتفاعلي اليومي، وتؤثر في منطق العلاقة بين الجماعة المسيحية والجماعة المسلمة، وتفتح المجال أمام وضع فواصل اجتماعية واضحة، حتي لا يحدث اختلاط يؤدي إلي الذوبان. ويبدأ الخوف من الذوبان في التمدد، فلا تبقي المسألة في حدود حماية العقيدة، بل تتمدد لتصبح وسيلة لحماية الأفراد في تعاملاتهم. تلك الصورة التي تشهدها مصر، تعبر عن حالة تعميم لفكرة الكنيسة والعالم من مجال الشهادة، إلي مجال الحياة اليومية. لتصبح الجماعة المسيحية متحققة واقعيا داخل الكنيسة، حيث تمثل الكنيسة بالنسبة لها الهوية الاجتماعية والسياسية أيضا. ويصبح انتماء الجماعة المسيحية للكنيسة، ممثلا لرابط أساسي ودائرة انتماء رئيسة، لأن الجماعة المسيحية تعرف هويتها وتتأكد منها داخل الكنيسة. ومن هنا تتأثر فكرة التفاعل الاجتماعي الإيجابي والانخراط في حياة المجتمع، والتعامل الصحي مع الآخرين المختلفين في العقيدة، مما يعمق الفجوة بين المسيحي والآخر، لأنه يحاول المحافظة علي هويته المستقلة، ويبني أسوارا تحميه من أي فكرة خارجه. إذا نظرنا إلي هذا التحول الاجتماعي لفكرة الكنيسة والعالم، سنجد أنها تعمق حالة الشعور بالغربة داخل الجماعة المسيحية، لأنها الجماعة الأقل عددا، مما ينتج عنه الشعور بالخوف وفقدان الآمان، بأكثر مما تتحمل الوقائع. وتتزايد حالة الخوف من المحيط أو العالم، عندما تحدث صدامات بين الجماعة المسيحية والجماعة المسلمة، في شكل صدام بين طرف من هذا وطرف من ذاك، فتصبح تلك الصدمات نزاعا بين أغلب الجماعة المسيحية وأغلب الجماعة المسلمة. ففي أحداث العنف، تقام الأسوار الحامية، وبسبب تفشي التعصب، تقام أيضا الأسوار الحامية، وبسبب خوف الجماعة المسيحية علي نفسها تقام الأسوار الحامية. وكل هذه الأسوار تجد تلخيصا لها في العلاقة بين الكنيسة والعالم، والتي تتحول إلي علاقة بين الكنيسة والتهديدات التي تتعرض لها، فيصبح العالم مناظرا لفكرة العدو. وهكذا تجد حالة الانعزال لدي الجماعة المسيحية سندا لها في الفكر المسيحي، وتترجم علي أرض الواقع، من خلال تعلق الجماعة المسيحية بالكنيسة بوصفها ليس فقط مؤسسة المسيحية، بل أيضا مؤسسة الجماعة المسيحية. هنا تظهر الدولة البديلة، وهي ليست دولة بالفعل، ولكنها دويلة فرعية بديلة داخل الدولة الرسمية. دويلة تحمي الجماعة المسيحية من العالم، وتقدم لها الدعم المعنوي والخدمي، كما تقدم لها الهوية النقية الخالصة، حماية لها من هذا العالم المحيط بهم، وتؤكد لها تميزهم في كل شيء تقريبا عن العالم المحيط، حتي تبقي الجماعة المسيحية غير قابلة للانصهار أو الاندماج في العالم. هكذا يتبلور أحد أبعاد المشكلة، لأن الجماعة المسيحية في مصر عمقت الشعور بالخوف من الأخطار التي قد تتعرض لها، بصورة لا تؤدي إلي حل تلك المشكلة وتجاوز المخاوف، بل بصورة تؤدي إلي تكريس حالة الخوف من الآخر، وبناء الأسوار الكافية لحماية الجماعة المسيحية من العالم المحيط بها، وبهذا يتعمق انعزال الجماعة عن محيطها، وتصبح في حالة دفاع عن النفس في معظم الوقت. هذا الموقف يؤثر بالطبع علي فرص الاندماج الإيجابي، وبناء الجماعة الوطنية الواحدة، وأيضا يؤثر علي فرص اكتشاف المشترك الاجتماعي والثقافي والحضاري بين المسلم والمسيحي، والذي تبني علي أساسه الجماعة الوطنية. بجانب أن هذا الموقف يغير من فكرة الشهادة للمسيحية في العالم بمعناها الإيجابي، الذي يجعل المسيحي فردا فاعلا ومؤثرا وملتزما ومسئولا في مجتمعه. فأحيانا ما تنتج الأزمة رؤية تكرس بقاءها واستمرارها ولا تساعد علي حلها.