قد تقوم بالاشارة إلي المكان الذي تقف فيه.. أو إلي قلبك حيث تسكن الحبيبة (اللي دايما في البال). أو تشير إلي رأسك باعتباره منبع وبركان خيالك.نعم انك هنا وهناك..وهما معا معك وحولك وفي قلبك وفي عقلك.. وأيضا في كل لحظة. «لماذا علينا أن نمتلك بيانو؟» هكذا تساءل الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا مضيفا «الأفضل هو أن تكون لدينا أذنان.. وأن نحب الطبيعة». وعلي فكرة.. النغمة الحلوة أوالكلمة الحكمة لا تعرف الغربة انها «محفورة» و«منقوشة» و«بتدندن» في بالنا، حاضرة دايما وهنا (أشير الي قلبي). «كل أموال الدنيا لا تستطيع أن تشتري صديقا» كتبها عملاق الصحافة مصطفي أمين ذاكرا «حافظ علي أصدقائك كما تحافظ علي حياتك. فهذا الصديق هو العملة الصعبة في هذا الزمن. هو المصرف الذي تضع فيه رصيدك.هو البنك الذي لايفلس». أتذكر الأستاذ وأراه الآن.. ومن حولي البنوك تفلس والصحافة تفلس!! أما شاعرنا الكبير محمد الماغوط فقد نبهنا قائلا: «في أعماقنا رعد وبرق وعواصف وأمطار. لاتشير اليها الأرصدة الجوية». وهنا بالطبع أتساءل تري ماهو رأي مذيعات النشرات الجوية الفضائية وهن اللائي يتمايلن مع كل هبوب للرياح الجنوبية الشرقية!! من الطبيعي أن نجد أنفسنا نواجه في تفاصيل حياتنا اليومية الكثير من البشر الذين لا هم لهم (كما يبدو أحيانا) سوي أن يسألوك سيلا من الأسئلة، بل أحيانا يقذفوك بل يرجموك بوابل من علامات الاستفهام والاستعجاب؟ لدرجة أنك تتساءل «هوه يعني مفيش حد غيري؟» ثم ماذا أفعل إذا كنت لا أعرف إجابة السؤال المطروح أو أن إجابتي قد تكون مختلفة عما يتصوره ويتمناه ويريد أن يسمعه الشخص الذي طرح السؤال. إلحقنا ياعم حسين ببساطتك فلسفتك العظيمة، فيقبل قائلاً: بصراحة أنا كمان نفسي أفهم.. ما يسيبونا في حالنا، ايه حكاية أسئلة الدمار الشامل.. ماذا تريد أن تفعله؟ عايز إيه بالظبط؟ لماذا لا تتحرك؟ وإن تحركت انت مستعجل علي إيه؟ (كان غيرك أشطر).. وانت مش ناوي ترسي علي بر؟!.. ويا سلام! إيه اللي حصل لطموحك؟. فينك أنت؟ هنا ولا هناك؟ معانا ولا معاهم؟ إيه.. ساكت ليه؟ مش عايز تتكلم؟؟. عم حسين كعادته حصر وعصر في لقطة واحدة أسئلة دنيانا الصعبة والمدمرة أحيانا ثم أضاف: «بالمناسبة يسألوك أحسن من يتجاهلوك..» وطبعاً سماعك لمثل هذه الأسئلة يدفعك لوقفة و«فرملة» و«محاولة لمعرفة رأسك من رجليك». وسواء كنت هنا أو هناك فعليك أن تبطئ في حياتك قليلا. وذلك لكي تستمتع أكثر بما تفعله وتقوله وتسمعه وتأكله.. وأيضا بما تعبر عنه عشقا وولها. في التأني السلامة وفي العجلة الندامة هكذا نبهونا في مرور الشوارع ومع قيادة السيارات. لكن يبدو أن هذا التنبيه «بقي موضة قديمة» و«راح عليه» في شوارعنا وحياتنا أيضا. الكل متسرع ومهرول ولاهث و«هات ياجري». في المقابل نسمع أو بدأنا نسمع (ولو بصوت خافت) أصواتاً تقول إن في التأني السلام النفسي في حياتنا (ولو سمحت اقرا العبارة الأخيرة مرة كمان وببطء) إنه التأني وهذا ما يدعو اليه أنصار ودعاة ثورة التمهل والتأني في دول متقدمة في أوربا وأمريكا. لأن هذه الدول ببساطة لاهثة اقتصاديا واجتماعيا ولذلك يجب التنبيه و«الفرملة» والأهم طبعا القرار ب«فك الاشتباك» و«الانسحاب من خطوط الصدام والقتال». ما أسهله من كلام وما أصعبه من مهمة!! منذ عدة أسابيع ظهر من جديد علي المشهد الأمريكي كتاب «في مديح البطء (التمهل)» للكاتب والصحفي كارل هونوري. النقاش حول الكتاب بدأ مع اختياره وطرح اسمه ككتاب نادي الكتاب للإصدار الإلكتروني الشهير والمؤثر «هافنجتون بوست». وقيل كسبب لاختيار الكتاب أن التمهل أصبح حاجة ملحة لامفر منها إذا كنا نريد أن نحيا (لا نعيش) حياتنا وبدلا من أن تكون حياتنا مجرد «جرجرة أيام» و«احنا خلاص اتفرمنا». الكتاب ظهر عام 2004 ونال شهرة واسعة علي مدي السنوات الماضية لأنه رصد وتابع (وشجع أيضا) التمرد الحادث في بعض المجتمعات المتقدمة إنها الحركة الرافضة لعبودية السرعة وتداعياتها في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والعاطفية أيضا. مهلا أيها اللاهث في الحياة. فأنت في حاجة إلي «فرملة» ولا داعي للتوقف طويلا، افعل كل شيء ولكن ببطء وتمهل. وذلك لكي تتذوق كل فتفوتة في تفاصيل حياتك. والكتاب ترجم الي 30 لغة ومن الطريف أن غلاف الطبعة اليابانية يحمل رسما لأرنب قرر أن يعتلي ظهر السلحفاة وجلس سعيدا بالسرعة التي تسير بها السلحفاة (منافسه في سباق الحياة وحكايات الأطفال) طالما سيصل إلي غايته. ويقول مؤلف الكتاب أن تكون كسولا (بعض الشيء لبعض الوقت) لا يعني انك مهزوم أو خاسر أو منسحب من الحياة. بالعكس إنها دعوة لك وفرصة لكي تستعيد وتنعش حواسك القادرة والراغبة في التمتع بكل صغيرة وكبيرة الصغيرة قبل الكبيرة. والحكاية مش «جري الوحوش» و«سباق مع الزمن قبل أن يفوتك قطار الحياة» و«دلوقتي نجري وبعدين وبكرة نستريح» يبقي قابلني! وهنا تقاطعني هدي قائلة: واحنا علي فكرة هنا بقينا زي هناك دايما بنجري ونلهث ومش عارفين راسنا من رجلينا ولا شايفين أو قادرين نشوف ولادنا وحبايبنا فين أيام زمان؟؟. إذن المسألة ليست «هنا وهناك» أو «إن إحنا هنا في مأمن من هناك» أو «إن هناك شر وبعيد.. أو أحيانا أرض الأحلام». ولم يكن غريبا أن يلجأ الشاعر محمود درويش إلي معادلة «هنا» و«هناك» ليصور لنا حياة الإنسان المهاجر أو المنفي مع آلامه وأحلامه. يقول درويش في قصيدته «طباق» المهداة للمفكر الفلسطيني الأمريكي الإنساني إدوارد سعيد متحدثا بلسانه «أنا من هناك أنا من هنا ولست هناك ولست هنا لي اسمان يلتقيان ويفترقان ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم..» إنه التحدي الذي وجده وواجهه إدوارد سعيد وآخرون مثله من «هنا» و«هناك». وبالطبع قد تتكاثر اللغات التي نتحدث بها ونحلم بها. وقد ننسي بأي لغة كنا نحلم إلا أننا في كل الأحوال يجب أن نحلم وألا نتوقف عن أن نحلم.. عفوا حتي لوكان حلمنا بلغة الإشارة لغة نراها وقد نفهمها يعني مش مهم أن تكون لغة ننطقها أو نسمعها.المهم نحلم!! والعظيم محمود درويش له عبارته الشهيرة «أنا من هناك ولي ذكريات». وقد قالها وكرر قولها عندما عاش وعايش صخب الادعاء الصهيوني بأن فلسطين «أرض بلا شعب » وبالتالي يجب أن يذهب بل ذهب إلي «شعب بلا أرض»... إلي شعب الله المختار مثلما يقولون ويصفون أنفسهم. وهكذا نواجه مخاطر الفناء ونخوض معارك البقاء بذاكرتنا «أنا من هناك ولي ذكريات» وأيضا لي أحلام.. وهنا وأنا أتأمل حال الدنيا أسترجع صوت فلسطيني آخر هو الشاعر مريد البرغوتي وهو ينثر ذكرياته وأحلامه وحياته من خلال كتابه «ولدت هناك.. ولدت هنا». وفي لحظة ما يتوقف شاعرنا أمام القهوة وسرها: يختلف الناس في سر القهوة وتختلف آراؤهم: الرائحة، اللون، المذاق، القوام، الخلطة، الهال، درجة التحميص، شكل الفنجان، وغير ذلك من الصفات. أما أنا فأري أنه «التوقيت». أعظم ما في القهوة «التوقيت»، أن تجدها في يدك فور أن تتمناها. فمن أجمل أناقات العيش، تلك اللحظة التي يتحول فيها «ترف» صغير إلي «ضرورة». والقهوة يجب أن يقدمها لك شخص ما. القهوة كالورد، فالورد يقدمه لك سواك، ولا أحد يقدم وردا لنفسه. وإن أعددتها لنفسك فأنت لحظتها في عزلة حرة بلا عاشق أو عزيز، غريب في مكانك. وإن كان هذا اختيارا فأنت تدفع ثمن حريتك، وإن كان اضطرارا فأنت في حاجة إلي جرس الباب... وبينما أقرأ هذه السطور أستحضر مشاهد ومراسم شرب القهوة في حياتي هنا وهناك وفي أماكن كثيرة مراسم نتمهل معها وننسحب فيها من لهث حياتنا لنستمتع باللحظة إياها والذكري العطرة وصحبة الحبايب وحديث الونس. وسواء كان فنجان القهوة أو كوب الشاي أو رائحة المعسل أو دخان السيجارة فالمهم هي تلك السرحة «اللي تخدك لهناك أو لأي مكان وأي زمان».. تلك الانطلاقة الروحية التي تأخذنا تطير بنا الي آفاق جديدة في عالمنا هناك أو...عوالم جديدة في خيالنا هنا (وأشير إلي رأسي). مريد البرغوتي وهو الشاعر والأديب والفلسطيني تذكر وذكر في كتابه الكثير عن المكان والزمان والإنسان في حياته. عن الزوجة الأديبة المصرية رضوي عاشور وعن ابنهما تميم الشاعر. «أريد أن أؤرخ لما لن يؤرخه أحد نيابة عني» هكذا يقول مريد وينبه. نعم لا أحد يستطيع أن يؤرخ حياتك مثلك أنت، ولا أحد يستطيع أن يغني أغنيتك وأن يري ليلاك وأن يحلم حلمك مثلما تغني وتري وتحلم أنت. لا أحد يستطيع أن يفعل كل هذا مثلما تفعله أنت أو تريد أن تفعله. خصوصا إذا كانت حكاياتك ياما حكايات من هنا ومن هناك. وهي حكايات العشق والمعشقة والعاشق والمعشوق.. وهي مشربية دنيانا الساحرة والجذابة. وفي كل الأحوال المهم..بل الأمر الأهم هو ألا تسجن نفسك في «هنا» وبالتالي لا تري ولاتستكشف «هناك» أو أن تأخذك ذاكرتك ويشدك خيالك إلي «هناك» البعيد أو ربما السراب فلا تلتفت لمن حولك وما حولك.. واللي أنت فيه فيضيع «هنا» منك ومن بين يديك والأهم أن تربح وتكسب من الاثنين معا «هنا» و«هناك» وطالما معك قلبك ودليلك أكيد مش حتختار ومش حتحتار بين «هناك» و«هنا» وخد بالك من قلبك. وكلمني شكرا!!