«دلوني علي السبيل» هي ببساطة الرغبة في إرواء العطش.. هي سؤالنا عن سبل وبحثنا عن طرق توصلنا إلي منابع المياه ومناهل المعرفة وأغوار الألفة الإنسانية. وبالمناسبة أنت الذي تسأل وأنت الذي تجيب أيضا. يعني أنت العطشان والسقا كمان. لو كنت «عايز ومصمم».. «إن حبك لها ملك لك، أنت الذي تملكه حتي لو هي رفضته، فهي لن تستطيع تغييره، كل ما في الأمر أنها لن تستمتع به» هكذا نصح السيد إبراهيم المسلم الذي تخطي السبعين الصبي اليهودي موسي في فيلم «مسيو إبراهيم وزهور القرآن». ثم أكمل الصوفي كلامه قائلاً «إن ما تعطيه يا مومو يظل لك طوال العمر، أما ما تبقي عليه فهو ضائع إلي الأبد». إبراهيم (الذي جسده عمر الشريف بجاذبيته الساحرة) أعطي بكلماته ومواقفه دروسا وعبرا في العطاء الإنساني. والعطاء هو ما يروي ويثري به الإنسان حياته.. ويقاوم به العدم والعبث. وكثيرا ما تكرر علي مسامعنا مطلب د. طه حسين أن يكون التعليم كالماء والهواء.إلا أن في عصرنا هذا من الطبيعي أن يتساءل البعض: هل التعليم أصبح فعلا كالماء والهواء؟ ربما كالهواء ملوث وكالماء لا يصل للأدوار العليا. نعم، من حق الأجيال الجديدة أن تتعلم والأهم أن تتواصل مع العالم الذي ننتمي إليه والعصر الذي نعيش فيه وإلا كان مصيرهم الجفاف الفكري والتصحر المعرفي والاحتباس الإنساني. ظواهر إنسانية طبيعية آخذة في التفشي بسرعة لذلك يجب أن نقف لها بالمرصاد. ولم يكن بالأمر الغريب والعالم يحتفل باليوم العالمي للمياه ( 22 مارس) أن تشير الأممالمتحدة في تقرير لها عن أوضاع المياه في العالم بأن عدد البشر الذين يموتون سنويا من المياه الملوثة أكثر من ضحايا كل أنواع العنف بما فيهم الحروب. وذكر التقرير أن أكثر من نصف الأسرة (جمع سرير) في مستشفيات العالم يشغلها مرضي يعانون من تبعات أمراض لها صلة بالمياه الملوثة. يا ساتر يارب هو ده حال دنيانا؟! ولا شك أن المياه بوجودها أو شحها، بنقائها أو تلوثها وبالطبع بتوفيرها أو التوصل إليها قضية تشغل بال الكثير ويجب أن تشغل بالنا. ومن هنا تأتي أهمية وضرورة التوعية المائية. كيف يمكن أن نقلل من تلويثها وإهدارها؟ وتقليل الفاقد منها بسبب إهمالنا وتسيبنا. مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» الشهيرة خصصت كل صفحات عدد شهر أبريل 2010 للماء و«عالمنا العطشان» (حسب توصيفها). وتذكرنا المجلة بأنه علي الرغم من أن المياه تغطي أغلب الكرة الأرضية فان 97 في المئة من تلك المياه مالحة. وأن اثنين في المئة نعم تعد مياهًا عذبة/ حلوة إلا أنها موجودة أو محشورة في جليد أو ثلوج. وبالتالي لا يبقي من مياه العالم لنا إلا واحد في المئة. والمجلة إذ تقدم مقالات شيقة ومفيدة عن تطور أو تدهور أوضاع المياه في بقاع العالم، تنشر أيضا صورا فوتوغرافية مبهرة تعكس الواقع والخطر المنتظر. وتذكر أن في عام 2025 سيصل عدد البشر الذين يعيشون في مناطق تعاني من ندرة المياه إلي 1.8 مليار نسمة. ونحن الآن للعلم 7 مليارات ومن المنتظر أن يصل عددنا إلي 9 مليارات في عام 2050 ويلاحظ أن من الموضوعات المفضلة للنقاش في اليوم العالمي للمياه في السنوات الأخيرة هو ظاهرة أو بيزنس أو «أكذوبة» المياه المعدنية أو الطبيعية أو تلك «المعبأة في قزايز». وهنا نتحدث عن بيزنس يقدر حجمه عالميا بأكثر من 100 مليار دولار وفي تصاعد مستمر. حتي أن شركات عملاقة في عالم المشروبات الغازية مثل بيبسي وكوكاكولا دخلت هذا المضمار لأنه أكيد فيه مكاسب ضخمة. انه هوس ويراه البعض كأنه إدمان حتي لو تم مواجهة المستهلك بخفايا وألاعيب هذا البيزنس. «انه بيزنس ماتخرش منه المية. وأكيد الناس لازم تشرب مية وأكيد حتدفع أي ثمن من أجل شوية مية» هكذا تعلق الصديقة نهاد وهي تقرأ لي تقارير مفصلة عن هذا البيزنس العالمي وما له من تبعات علي حياتنا. إن المياه في حياتنا تعلمنا الحيوية والجريان والعطاء والتجدد والاحتواء والأهم من قاموس فنون الحياة الإرواء والارتواء والارتماء علي الشواطئ، وأيضا إعطاء أو جلب الحياة «للي حوالينا» وهم عطشي للعطاء الإنساني (وما أكثرهم هذه الأيام). وعلي رأي حبيبنا العم حسين «هي المية طبعا اللي» بتروي العطشان وتطفي نار الحران «وبتروق بالك وبتبرد قلبك وبتغسل وبتنظف جسمك وروحك» ومستخدما فلسفة أو أبجدية المياه يضيف قائلاً «طبعًا اللي إيده في النار مش زي اللي أيده في المية.. وعايز تبقي قطرة الندي.. عايز تصير مطرا أو تكون نهرا أو بحيرة كن ما شئت.. المهم ماتكونش بركة راكدة وأنت عارف طبعا إن فيه ناس ممكن تغرق في شبر مية. عالعموم ماتحاولش تبيع المية في حارة السقايين.. ويا سلام علي المية وحلاوتها أنها السرسوبة والرشفة والرشة..» «وهي الطشة والطرطشة كمان» يقاطعنا سامر مضيفا «وأرجوك بلاش نجيب سيرة طشة الملوخية إياها اللي ياما بلبطنا فيها وطرطشنا بها وخلاص ريقنا نشف من تكرار الكلام عنها وعما وصلت إليه أحوال صحافتنا». وبما أن الربيع قد قدم إلينا وأقبل علينا ( مختالا ومتألقا.. «وقفللي علي كل المواضيع") فنحن يجب أن نعايش من جديد الحالة اللي بتنعشنا وبتنعنش حياتنا كمان. وأكيد مع كل شم النسيم (الاحتفال المصري الأصيل بمجيء الربيع وبتجدد الحياة) نحن نجدد عقدنا السنوي مع الحياة والطبيعة من حولنا وذلك بتجددنا وإقبالنا عليها ماءها وخضرتها. ومنذ أكثر من أسبوعين وتحديدا يوم السبت 20 مارس احتفل الإيرانيون علي امتداد العالم بعيد النوروز بدء الربيع والسنة الفارسية ال 1389، ومع الاحتفال وأيامه ال 13 وموائده المزينة بسبع مواد رئيسية تبدأ بحرف السين في اللغة الفارسية (ومنها التفاح والتمر والخل والثوم) نجد حرص ربات البيت علي وضع القرآن الكريم وديوان حافظ الشيرازي بجانب مرآة وبيض ملون ونقود معدنية. وبما أن الفرصة قد أبيحت لي لكي أشارك أصدقاء وصديقات في احتفالهم بنوروز كانت مناسبة للاقتراب من جديد من حافظ وشعره وسحره. إذ أننا أمضينا بعض الوقت في فتح أي صفحة من ديوانه وقراءة ما يقوله حافظ لنا من أنهار مشاعره ومحيط معرفته ونحن علي مشارف عام جديد. وحافظ الشيرازي عاش مابين عامي 1315 و1390، وقد ولد في شيراز إيران وسمي حافظا لأنه حفظ القرآن وقد عمل خبازا وردد وهو شاب عن ظهر قلبه أشعار الرومي وسعدي (من عمالقة الكلمة في إيران) وبالطبع نهل من الحياة والثقافة الفارسية وكتب وتغزل وعشق وهام بين البشر وتحول إلي أسطورة حية وباقية وملهمة حتي الآن. وقد لقبه البعض بشاعر الشعراء في إيران. وديوانه موجود في كل بيت وإلي قبره في شيراز يتردد الآلاف سنويا. وشعره يلجأ إليه الإيراني في حياته إذ ربما يجد فيه بلسما لآلامه أو قراءة للطالع ( فال حافظ) مستبشرا أيامه المقبلة. وبما أن حافظ كان ومازال رمزا خالدا ومكونا أصيلا وأساسيا في التراث الفارسي الثري لم يحاول أحد ولم يدر بذهن أحد والحمد لله أن يمس به وبغزلياته أو أن يتعرض لتعلق أهل إيران ب"ترجمان الأسرار» وديوانه. ويذكر بعض الدارسين أن نحو 40 بيتا من أبيات حافظ ضمنها كاتبنا نجيب محفوظ في روايته «الحرافيش». ويكتب د طه حسين في مقدمته للترجمة العربية ل «ديوان حافظ الشيرازي» بتاريخ 12 فبراير 1944. «هذه طرفة أخري نفيسة ورائعة، يسعدني أن أطرف بها قراء العربية لأنها ستمتعهم من جهة، ولأنها ستزيد ثروة الأدب العربي من جهة أخري، ولأنها بعد ذلك ستنير في نفوس كثير منهم ألوانا من التفكير المنتج وفنونا من الشعور الخصب، ولعلها تفتح لبعض الشباب أبوابا في الحس والشعور والتفكير لم تفتح لهم من قبل». وقد نقله من الفارسية إلي العربية الدكتور إبراهيم أمين. وما أجملها من كلمات وما أعظمها من معان: «التفكير المنتج» و«الشعور الخصب» وطبعا فتح لأبواب في الحس والشعور والتفكير. وهو ما مطلوب الآن مثلما كان في كل زمان. هكذا تجري وتتجدد أنهار الحياة والحياة ذاتها. وقد سئل حافظ يوما: من هو الشاعر؟ فأجاب: «الشاعر هو الذي يسكب الضوء في كأس، ثم يرفع الكأس ليسقي به ظمأ الشفاه المقدسة». ومهما قلنا وكررنا أن «المية تكدب الغطاس» فاغطس في الدنيا و«خليها علي الله» وهي الدنيا دي لها معني وطعم من غير ما تغطس فيها؟! وأن تشوف أعماقها وعوالمها وتبهرك لآلئها وشعابها المرجانية هيه!! هو أنت ممكن تشوف كل ده وأنت قاعد عالشط؟ أكيد لأ وأكيد لازم تتواصل دايما مع ناسك وحبايبك وأصحابك ودايما تاخد في بالك إن المية «لازم تعود إلي مجاريها» وإذا احترت مع الشخص «فشوف ميته» ثم قرر إن كنت حتعوم معاه أو تسيبه «وتشوف عومة تانية» وأكيد دايما فيه ناس ناوية وغاوية تصطاد في المية العكره بس اوعي تعكر نفسك ومزاجك خليك حلو ورايق زي المية وعليك أنت أن تكون في كل الأحوال بتشبه المية في روقانها ورقتها ونقاوتها وانعاشها وتلطيفها وترطيبها وحلاوتها وطراوتها وتدفقها وجريانها وأوعي تنسي اللي بيحبوك وبيعزوك وأنت غطسان في حياتك ودنياك ويمكن مش واخد بالك وأوعي يفزعك أو يهزك أبدا القول إياه «حاقطع عنك النور والمية» فلنا رب اسمه الكريم واشرب واروي عطشك و«هنيا» لك الدنيا بناسها وكل اللي فيها واغطس أو خف وعوم الدنيا بحرك ومحيطك إيه؟ هو أنت لسه بتشاور عقلك؟!