لست من هواة المسلسلات بالمرة، ولا أفهم معني أن يجلس المرء كل يوم في نفس الموعد ليتابع نفس القصة والأشخاص الذين تابعهم أمس.. لا وإيه، يغلس علي نفسه ويتوعدها بأنه سيتابعهم في الغد. حين أحرص علي متابعة «أهل كايرو»، فأنا لا أتابع مسلسلا تليفزيونيا مصريا تقليديا، وإنما أتابع كل يوم فيلما قصيرا بالغ الإبداع والإتقان. لم يلفت انتباهي الموضوع، ولا القضايا السياسية، ولا فضح الفساد، فالكل يرغي ويزبد في هذا الأمر، كما لم أهتم بمعرفة من قتل صافي سليم، ولا بمحاولة الربط بين شخصيات المسلسل وبعض الشخصيات العامة.. ما أبهرني حقيقة فنية كتابة المسلسل وإخراجه. بداية، ما فعله الكاتب بلال فضل والمخرج محمد علي بنفسيهما هو عملية انتحارية والله أعلم.. كيف يتم معالجتهما الآن من آثار هذا التفاني الذي يصل إلي حد الجنون ويستلزم الحجر عليهما؟ ولكي أشرح لك كيف تمت هذه العملية الانتحارية سأستخدم تشبيها حتي تصلك الفكرة، لكن قبل استخدام التشبيه يجب أن تعلم أن عملا ك«أهل كايرو»، في أوروبا والدول المتقدمة، لا يقوم بكتابته شخص واحد، كما يمكنك قراءة قائمة مساعدي الإخراج ومساعدي مساعدي الإخراج الطويلة، وذلك حفاظا علي الصحة النفسية والعقلية للكاتب والمخرج. لكن عيالنا شاطرين، وبيغزلوا برجل حمار. مهمة كاتب السيناريو المتقن هي نفس مهمة محضر الأرواح والجن.. هناك محضر أرواح خائب.. كل ما يستطيع تحضيره هو عفريت في الثالثة من عمره جايبه من فوق البسكليتة أم تلات عجلات، وكلما ازدادت مهارة وعمق محضر الأرواح، استحضر بسم الله الرحمن الرحيم من ذوي القدرات الخارقة. يجلس السيناريست مثل الشاطر في مكتبه، وأوووووممممممممم، خبطة واحدة يعني أيوه خبطتين يعني لأ، ويحضر الروح بعد الروح، هذه الأرواح هي شخصيات العمل الذي سيقوم بكتابته، الكاتب الأريب، يستحضر روحا قوية، يعرفها تماما، بكل التفاصيل عنها، وبسم الله الرحمن الرحيم تتلبسه ليتحدث بلسانها ويتركها تصنع خط سيرها، ثم الروح التالية فالتي تليها، حتي يستكمل فرقة العفاريت، ويستخدم الورق كوسيط. خلاص كده؟ أترك محضر الأرواح في حاله لأنهم يكبرون في أذنه الآن، واذهب للمخرج. همممم، الكاتب في مصر يخاف من تحضير الأرواح القوية لأن هناك احتمالية كبيرة أن تقع أرواحه في يد مخرج غليظ الحس والفهم - الحلاليف ماليين البلد بعيد عنك - وعندها سيجد الكاتب نفسه يقف موقف نور الشريف في فيلم العار صارخا: «شقا عمري.. انزل معايا الملاحة». المخرج الذي يتسلم الأرواح هو الساحر.. يجب أن تتوافر في الساحر بعض الخصال التي تكون هبة من الله، مثل الفهم والإحساس المرهف، إلي جانب تعلم فنون السحر وإتقانها. يتسلم الساحر من الكاتب الأرواح عبر الوسيط الورقي.. من المفترض أنه بمجرد أن يفتح الورق، لديه من الشفافية والإحساس اللذين يجعلان الأرواح تتلبسه، ثم يجلس مع عفريت عفريت، ويفهم طبيعته، وقدراته.. طيار أم ناري أم مائي، ما يضايقه، ما يسعده، ما هي إمكاناته السحرية، وتظل الأرواح تلعب البخت في وجهه، وترقعه وتهبده، حتي تشير للجتت التي تريد أن تستقر فيها، من هي الجتة؟ هي الوسيط الثاني: الممثل. يختبر الساحر/المخرج الوسيط الثاني الذي اختارته الروح، ويفهم قدراته ونقاط ضعفه وقوته، وكيفية نقل الروح إليه: يدخل من صباعه، ولا من عينه، ولا من ودنه، ويجب أن يحتفظ بخيط يربطه بالوسيط الثاني حتي يتمكن من تحريكه، كما يجب أن يستوعب الحالة النفسية المزرية التي سيكون عليها الوسيط/ الممثل فور استقباله الروح ليحسن إدارة الموقف، ويحتفظ بالسيطرة علي الروح وهي في جسد آخر، ويستمر في السيطرة طوال فترة التصوير، ثم يطلق عليك هذه الأرواح المتجسدة، قوم حضرتك تجلس أمام الشاشة فاغرا فاك، منبهرا بالعرض السحري، لا ترمش، ولا تلتفت، ولا تجيب علي هاتفك المحمول، لأنك أغلقته. خلاص كده؟ أترك بقي المخرج في حاله، لأنهم بيزوروه سيدنا الحسين.. الممثل؟ الله أعلم بقي، يشوف له طبيب نفسي، يشوف له ضحية ينكد عليها عيشتها حتي تفارقه الروح. هذا بالضبط ما فعله بلال فضل ومحمد علي في صناعة «أهل كايرو». وصفتها بالعملية الانتحارية لأننا في مصر لم نعتد علي الإقدام بشجاعة علي عالم بسم الله الرحمن الرحيم، ففيه أذي كثير، وكل كاتب ومخرج، له حياته، وبيته، وأولاده، وزوجته، وحولنا نكد متكدس، ولا ينصح بإجهاد النفس والأعصاب في مصر بالتحديد. لكن شهوة الفن سيطرت علي الكاتب والمخرج فأقدما علي إيذاء النفس، وكان الله في عونهما الآن. قام الكاتب بلال فضل بتحضير أرواح قوية شديدة المصرية والإنسانية لكل الشخصيات، حتي الشخصيات التي لم يزد حوارها علي عشر جمل، ثم اشتبكوا بانسيابية وبلا حشو وبحسابات دقيقة، واستشعرهم المخرج محمد علي في لحظات الصمت كما في لحظات التعبير، واختار الممثلين المناسبين تماما، حتي إنك لا تتخيل أي ممثل آخر يؤدي الشخصية، وحركها كما يجب وكأنه عمل هندسي. لا توجد لحظة ملل. خمس حلقات تشاهد حفل زفاف دون أن تتاح لك الفرصة، ولو لفيمتو ثانية، أن تقوم من أمام الشاشة لتحضر مشروب قمر الدين.. عطشان اشرب بعدين. كله ضرب ضرب مافيش شتيمة. هذا الجهد المضني أفسح المجال للممثلين فصال وجال كل منهم بموهبته، منهم من نعلم أنه ممثل عظيم مثل خالد الصاوي، ومنهم من اكتشفنا إبداعا جديدا فيه مثل رانيا يوسف. إذا فهمت مقصدي، فهمت، ما فهمتش مش مهم، مش بتتفرج ومبسوط؟ أما أنا فقد أصبت بآلام في الرقبة والظهر بمجرد تخيلي عملية صناعة هذا العمل. مدد!