أنجاني الله من هوس متابعة المسلسلات التليفزيونية التي تنتشر وتزدهر وتتكاثر كالفطر في شهر رمضان الكريم. ربما لأن هواية القراءة التي عشقتها منذ الطفولة منحتني مناعة ضد الغواية والاغراء ووسائل التشويق التي تتفنن الاعلانات المقروءة والمسموعة والمرئية عن هذه المسلسلات . في الترويج لها وتسويق قنواتها ونجومها الي حد يشعرك بالتقصير في وطنيتك وعروبتك وربما واجبك الديني والانساني, ان انت تكسلت عن أخذ نصيبك من هذه الوجبات والموائد الفنية الدرامية الهابطة من سماء الرحمن عبر الأقمار الاصطناعية والمعروضة علي القنوات الفضائية, وربما هذا ما جعل المقاومة التي أبديتها لأعوام كثيرة مضت, تصاب بشيء من التجريف والتخريب بسبب سيول الاعلانات وقوة تدفقها, لاقول في نفسي إنه آن الأوان لأن اتخلي قليلا عن هواية القراءة, وانصرف هذا العام بجزء من وقتي لمشاهدة ما يمكن مشاهدته من هذه المائدة المرئية الحافلة بصنوف المسلسلات, وفعلا توكلت علي الله وطويت الكتاب الذي كنت أطالعه, وعزمت باذنه تعالي علي أن أمنح بصري وعقلي وانتباهي للشاشة الصغيرة, وأضع الريموت كونترول في يدي واتفرغ لملاحقة هذه المسلسلات, أسجل قائمة باسمائها, واسماء القنوات التي تتولي اذاعتها, ومواعيد بثها, لأباشر متابعتها كمواطن يطيع قادة الرأي العام من أصحاب الاعلانات, اعني مموليها ووكالاتها ومخرجيها, فهم الذين اصبحوا الآن يملكون أقوي سلطة ونفوذ علي قلوب وعقول الملايين, المهم انني جلست لأشاهد أول ما احتوته القائمة من هذه المسلسلات, وطبعا القائمة تحتوي علي برامج اخري غير المسلسلات مثل الحوارات والمنوعات وغيرها من برامج التسلية والترفيه, المهم بدأت احداها وكان مسلسلا دراميا, إلا أن المشكلة التي واجهتني منذ الدقائق الأولي هي مرة اخري الاعلانات. فهذه الاعلانات التي حفزتني وشجعتني بل وأرغمتني علي أن اترك هواياتي الاخري وأتخلي عن عاداتي التي تربيت عليها وانصرف لتلبية ندائها الملح المتواتر العاجل لأن اتابع هذه البرامج والمسلسلات, تكون هذه الاعلانات هي نفسها التي تحول بيني وبين ما وعدتني به من امتاع وتسلية ومؤانسة, لأنه ما أن يبدأ المسلسل وأتجاوز حامدا الله وشاكرا فضله المرحلة المملة المضجرة التي يتم فيها سرد الأسماء واستعراض التيترات وأتنفس الصعداء لأنه حق لي الآن بعد كل هذا الانتظار والاحتشاد والترقب ان أنعم بمشاهدة الأحداث, الا أنها ما أن تبدأ حتي تنتهي قبل انتهاء الدقيقة الأولي من سردها, ويأتي الفاصل الاعلاني الذي احتوي هذه المرة من الفقرات ما لا يخصني ولا تشعرني الا بالسأم والقلق بل والمرض وأصبر صبرا جميلا في سبيل ان اتابع بقية أحداث المسلسل, وأقاوم قفل التلفاز, او تغيير المحطة او الخروج الي الشارع حتي ينتهي الفاصل الاعلاني, وأستعيد شيئا من نفسيتي التي تحولت الي شظايا, وشوقي للمسلسل الذي صار ينزف جراحا, لعل المشهد يعيد لي الحماس المفقود والنفسية المتشظية, إلا أنه ما أن يبدأ في شد انتباهي من جديد, حتي يحين موعد الفاصل الاعلاني الثاني ولم يكن قد انقضي من بث الحلقة دقيقة كاملة, وقد اهدرت ربع ساعة من وقتي جالسا لمشاهدة مسلسل لم أفز بغير هذه الدقيقة من احداثه, وربما وجدت في نفسي صبرا وجلدا وعزيمة لمقاومة فاصل اعلاني آخر, يحين بعده مشهد من المسلسل مدته دقيقة ثانية ليأتي الفاصل الاعلاني الجديد, فأجد أن صبري قد نفد, وشهيتي للمشاهدة قد ضاعت, واصابع يدي انتقل اليها شيء من التشنج والعصبية ومشاعر القلق التي ملأت صدري فداست علي الريموت كونترول بحثا عن قناة اخري ومسلسل غير المسلسل الأول. واذا كان المسلسل الأول قد ابتلاه الله بلعنة الاعلانات التجارية التي قضت علي متعة المشاهدة, فلعل المسلسل الذي انتقلت اليه قد أنجاه الله من هذه الآفة وأحظي بمشاهدة مريحة خالية من التشنج والعصبية والقلق, ولكن الحالة للأسف الشديد تتكرر, والفاصل الاعلاني يأتي هنا ايضا بنفس الالحاح والقوة والتواتر, ووقت فقراته يصل الي ثلاثة واربعة اضعاف الوقت المتاح من الحلقة بين الفواصل, فكأنك لاتأتي لمشاهدة مسلسل تتخلله الاعلانات, وانما لحصة اعلانية تتخللها فقرات قصيرة ضئيلة من المسلسل, وهذا للأسف حال كل المسلسلات وكل القنوات وكل برامج الترفيه والتسلية, مما جعلني أتنازل عن حصتي في هذه الموائد الرمضانية الربانية المقبلة من السماوات المفتوحة والمجرات الاصطناعية المضيئة, واعود الي كتابي الذي قفلته, أقدم له اعتذاري وأعبر له عن ندمي, متخليا عن تسلية التليفزيون المرئية والمسموعة والمقرونة بالألوان والموسيقي والمناظر واصناف الفنون التي يقدمها التمثيل والتأليف والاخراج والتلحين والرسم, والتي للأسف الشديد أفسدها عنصر واحد هو الاعلان, سامح الله منتجه ومسوقه وصانعه وعارضه وكل رمضان وانتم بخير.